الثلاثاء، 27 يونيو 2017

30 أبريل 2017// سجن عين عائشة بتاونات// المعتقل السياسي عبد النبي شعول// فوق هذه الأرض ما يسحق الحياة.

30 أبريل 2017

المعتقل السياسي: عبد النبي شعول
سجن عين عائشة بتاونات



فوق هذه الأرض ما يسحق الحياة


لولا الجدران الرطبة السوداء تحتضن أولئك الذين استيقظت شرارة المقاومة في نفوسهم وهم يخوضون حربا ضروسا ضد التهميش و القمع و الصمت من أجل فتح أكثر ما يمكن من النوافذ و يواجهون الطابوهات بالمطرقة النقدية رافضين أضواء التدجين... لما عرفت الحرية طريقها إلى النور في حياة الإنسانية. وكذلك هي قصة السجن وهو يلتقم جموع الرفاق المؤمنين بحتمية انتصار الحرية على قيود التاريخ.
كثير منكم يلمس السجن كواقع موجود و ملموس في عدد من تحركات المعتقلين السياسيين في إطار المعارك النضالية: في البيانات و البلاغات و التقارير، في الإضرابات الطعامية دفاعا عن الهوية السياسية و الحق في الحرية ومطالب متعددة أخرى، فهو إذن واجهة أخرى للنضال و المقاومة، ولكن ماذا عن التجربة الإعتقالية كتجربة داخلية و محنة ذاتية باطنية يعيش يومياتها المعتقل المناضل لسنوات داخل السجن؟ كيف يعيش الليل و النهار في فضاء ضيق مغلق؟ كيف يحيا، ويكتب،يفكر،يواجه، يتتبع أوضاع العائلة و الرفاق و العالم؟ كيف يتغلب على الروتين السجني ويهزم سجانيه؟ كيف يحافظ على إنسانيته و لا يتحول إلى جلاد يضر ذاته أولا، ورفاقه ثانيا، ومسار القضية أساسا؟ من خلال التجربة الإعتقالية المعاشة و المستمرة، يعتبر السجن واجهة نضال و كفاح أساسية، فالمعتقل عندما يقاوم يتشبث بالحياة داخل مستوطنة وضعت أساسا للموت. فمنذ خطواته الأولى لولوج السجن تبدأ تلك الآلة الغريبة الشبيهة من حيث الوظيفة بآلة كافْكا في مستوطنته العقابية، آلة تدميرية من الداخل، ذات شفرات حادة، تخترق الصمت الذي يلف الزنزانة، وعند الوعي بأدوارها التخريبية، يبادر المناضل إلى طرح السؤال: ما المقصود من ورائها؟ ويسارع إلى الجواب الحقيقي: إن المقصود هو قتلي و القتل هنا ليس شنقا و لا رميا بالرصاص، لأن القتل بهذه الطريقة أو تلك يرفع المناضل الشهيد إلى مثابة الرمز، الحي دوما في ذاكرة الجماهير. ولكن أخطر أشكال القتل هو الذي وضع السجن لتنفيذه في صمت وهدوء. إن إرهاصات الاغتيال الأولى تبدأ مع الشوق الجارف لرؤية سكان العالم الخارجي، البحر و الجبال، أضواء المدينة وربيع البادية، مع الشوق للأحباب، لامرأة أحببتها، وتكتمل الصورة عندما يصل الفصل إلى القضية المتصارع حولها، وهذا هو بيت قصيد المخطط. القتل هو أن يموت كل شيء فيك من الجفاف كالأرض تماما.صحيح ليس هينا مثلا أن ينزع الابن من أمه أو يفارق رجل حبيبته فراقا قسريا، لأن الحياة رغم مرارة مثل هذه القضايا مليئة بها. لكن أن ينتزع المناضل عن جذوره في المعامل و الحقول و الجامعات و الأحياء الشعبية حيث الفقراء و المعدمين، فالأمر أخطر بكثير، وهدف القمع هو استئصال هذه الجذور، فالقتل أن يموت المعتقل بداء "التفسخ الذاتي" كما تموت الأرض من شوقها للماء وتصبح أرضا بور و بالتالي غير منتجة.
فعملية القتل لها معنى آخر، أن يعيش المناضل في عزلة، دون دعم مادي أو معنوي، منفصل عن المجتمع، فارغ كالطبل الأجوف، في أعماقه الداخلية آلة رفيعة تمثل الحدود اللامتناهية بينه وبين كل تاريخه السابق... مهمة السجن هي أن ينتحر فيك الماضي ببطء، الماضي ذلك الجسر الرحب الذي يعبره المناضل بشجاعة قد تصل حد التضحية بالحياة.. وعندما يصل الحاضر يُخلَقُ خصاما عنيفا بينهما و تُفقَدُ حينذاك البوصلة المؤدية نحو المستقبل. هكذا هو تاريخ السجن، بما هو تاريخ العقاب و القتل المخطط له منذ ظهور المجتمع الطبقي بعناية فائقة من غير أن يترك القاتل بصماته. ومن هنا تمتلك تجربة الاعتقال من خلال المقاومة بعدها الأخر: بعدها الإنساني، ناهيك عن البعد السياسي، التشبث بما هو إنساني هو إحدى أسلحة المقاومة لأن كما أشرنا مهمة المخطط الموضوع سلفا هو أن تبقى سنوات السجن أرضا قاحلة بالنسبة للمعتقل، وردة هجينة، وتكون السنوات المحكوم بها سنوات عجاف.
و تأسيسا على ما سبق، نستخلص ونتفق مبدئيا أن السجن في دلالته العامة هندسة للخنق و قتل إرادة المعتقل، أي بتعبير آخر اعتقال الحياة فيه و إفراغه من طاقته و تجفيف منابع الصمود و الإبداع و الخلق الثورية. لكن هل يستطيع السجن تأدية هذه الوظيفة المعطاة له من طرف واضعيه؟...إن ممارسة الحياة، أي توفير شروطها داخل السجن ابتداءا من ممارسة أبسط شيء كنت تمارسه خارج السجن: تتبعك للأوضاع الجارية في الوطن و العالم، ارتباطك بالعائلة، بالعلاقات الرفاقية، خلق حياة جماعية داخل السجن مع سجناء وبعض "الموظفين" الذين يحترمون هويتك ويتعاطفون مع قضيتك بشكل من الأشكال... علاقات اجتماعية تتوفر على التجاوب و الحوار و الحماس و الدفء المفترض في أية علاقة إنسانية، ممارسة الكتابة على مواضيع متعددة و خاصة التي تزيد الأحاسيس استنفارا أي تعلقا بالروح المرحة للحياة، فممارسة الكتابة هي في جوهرها ممارسة للحياة و إنتاج موقف مناهض للموت، فكما تكتب تعيش، ممارسة الغناء، المساهمة من موقعك وبشكل إرادي تطوعي في تعليم السجناء الأميين وتثقيفهم بالحياة و الواقع المعيش، ممارسة الرياضة، الاعتناء بالنباتات في ساحة السجن، خلق أمسيات داخل و خارج الزنزانة مع أصدقاء السجن... السجن لا يستطيع قتل هذه الأشياء في الإنسان، هذا الإنسان الذين يريدون قتله وخلقه من جديد جلادا لمبادئه و كل ما يحمله، هو هذا الإنسان الذي لا يزيده السجن إلا تعلقا بأبسط الممارسات، العلاقة بالأم، بالمرأة التي يحبها...باختصار، في السجن أنت تمارس دائما إعادة إنتاج علاقاتك بهذا العالم، أنت تمارس حريتك في السجن، وهذه الحرية توسع من نطاقها و جمالها بنضالاتك و تحركاتك وفي ذلك تخنقهم هم، فالمعتقل هو نفسه الحامل لقضيته في ممارسته العادية للحياة.
ومن الجدير بالذكر أيضا، أن لدى كل معتقل مناضل قيم و مبادئ وتاريخ نضالي، لكن كل هذه الأمور تظل صماء إن هي ألغت ما هو إنساني، فالنضال الطبقي ضد الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج هو نضال ضد استغلال الإنسان للإنسان، نضال ضد كل أنواع الشرور و العقليات و المرضيات المتفسخة التي يفرزها مستنقع المجتمع القديم، إنه نضال لأجل إنسان جديد، وعشق الحرية ومصارعة أعدائها ليس نضالا طبقيا مهزوزا بل إنه ذو أبعاد إنسانية خالصة. إن اعتناء المناضل بزهرة في ساحة السجن يساوي اعتناءه بمبدأ من مبادئه، إنك تمارس حياتك بكل ما فيها من نشاط و حيوية و جذوة إبداع، و الطاقة الإبداعية تغتني هناك أكثر، و تنمو و لا تتخيل السجن إلا شجرة تنمو باستمرار، ويصبح صرير مفتاح الزنزانة إيقاعا لنشيد المعتقل المستمر.
ينشغل المعتقل المناضل (وأستثني هنا المعتقل الذي يعد جلادا لنفسه و لرفاقه و وصمة عار سوداء في تجربة الاعتقال السياسي) ببرامج نضالية حاملا على عاتقه مسؤوليات و هموم ة التزامات هي نفسها الانشغالات و الهموم التي يحملها كل إنسان كادح خارج السجن، الإنسان المحارب في ضمان قوت يومه، المحارب في أبسط شروط الوجود الاجتماعي، و هكذا فليس هناك فرق بين هموم الإنسان المعتقل و هموم الإنسان غير المعتقل ، فالفرق فقط هندسي في مساحة السجن، أي كما نعبر عنه عادة بالسجن الكبير و السجن الصغير، تبقى الخصوصية فقط في أن الخنق و الضيق كبيران بالنسبة لقاطن السجن الصغير بالمقارنة مع قاطن السجن الكبير. لكن الأمر المهم و الجلي هو أن المستهدف في السجنين معا هو نفس الإنسان، ويتضح ذلك من السؤال الأساسي الآتي: هل هذا المعتقل يصبح كارها للبشر و الشجر و الحجر، أي هل يصبح لا إنسانا؟ أقول هنا بشكل عام: ليس هناك تمييز بين هموم المعتقل السياسي في السجن الصغير و هموم إنسان السجن الكبير، لأن هموم هذا الأخير في بلادي عديدة تبدأ بالخبز و اللباس و السكن و الشغل و التعليم و الدواء و القمع الجنسي و تمر عبر حرية التعبير و التفكير و التنظيم النقابي و السياسي وصولا إلى مصادرة كل ما هو إنساني فينا، أي ما هو أجمل و أروع. إن المناضل في السجن، و العامل و الفلاح و الطالب و الموظف خارجه مثلا كلهم سواء من حيث أن هموم الأول جزء من هموم الآخرين. و باختصار أقول بأن همومي الشخصية لم تعد همومي لوحدي، فالحرمان من الحرية وطمس حقيقة براءتي، ومن ممارسة أبسط حقوقي كإنسان، إخضاعي لمحاكم التفتيش في زمن القصاص الفاشي و الظلامي،... هي جزء من عذابات الكادحين و المعذبين فوق هذه الأرض. و الفرق في استشعار الهموم الإنسانية هو فرق في الدرجة وليس في الطبيعة.
المعتقل المناضل يقرأ، يفكر، يبدع ويكتب. كتابته ليست خاضعة لقوانين أو لوغاريتمات عليا تتحكم فيها، بل هي واسعة الصدر. تبدأ الكتابة عنده حسب ما تعلمه من الحياة وفي الحياة. الكتابة لديه هي ذلك الكشف عن علاقات أفضل و أجمل بين الأم مثلا و ابنها السجين، أو بين الزوجة و زوجها الذي حرمت منه، أو بين الطفل الصغير و أبيه المعتقل. هذه المعاناة قاسية ونبيلة في آن واحد لأنها في اعتقادي أجمل ما يقدمه أناس يناضلون، هذا الحب الذي لا أعمق منه و الذي يجمع هؤلاء الناس أطفالا و نساء و رجالا و أصدقاء كلهم محرومون من بعضهم. وليس عبثا ما كان يصيغه مجموعة من الكتاب و الشعراء من رسائل للمعتقلين... إذن تبدأ الكتابة لدى المعتقل المناضل من جمالية هذه المعاناة الكبيرة و المفتوحة و تصل إلى مواضيع أخرى.
في السجن، الكتب ذات الطابع السياسي النقدي للسلطة و المجتمع ممنوعة، وكل ما يكتبه ويدونه المعتقل المناضل فهو مهدد بالحجز في أية لحظة تفتيش أو مداهمة مباغتة، إن لم يكن فاتحة لاستنطاق و وجبة تعذيب مرفوقة باتخاذ إجراءات عقابية... الكتابة هي لقاء مع الحياة شاذ وعلى غير موعد. بهذا المعنى تبدأ الكتابة و التي تظل بمثابة تلك الترجمة الدقيقة للعلاقة بالعالم و إعادة رؤيته وصياغته لتحريره من قيد المعاناة و العذابات، وهناك عامل أساسي له دوره في كتابة المعتقل المناضل و إبداعه هو ذلك الإحساس المرهف الذي يكونه صمت الليل و الصراع الداخلي بين الحياة و الموت. وفي خريطة هذا الإحساس المتشابكة يعلن الزواج الطويل الأمد مع الحياة و الناس عن طريق اختيار المقاومة بكل أساليبها و أشكالها، و هنا تدخل الكتابة كوجه من أوجه الصراع غازية علاقة المعتقل السياسي بالحياة.
وتعتبر الصورة التي توضح الكتابة داخل السجن هي: أن المعتقل السياسي يتحرك في نطاق القيد لأن كتابته تعبر عن إرادته و تلخص مدى مقدرة الإنسان للذهاب إلى أبعد شروط لحفظ الحياة فيه و إغنائها. قد يتعلم المعتقل السياسي الكثير وهو في قاعة الزيارة من نظرة ذاك السجين العميقة لطفله أو زوجته أو أفراد عائلته...أشياء لم نكن ننتبه إليها جيدا ونحن خارج السجن. فالمعتقل المناضل يطور نظرته للحياة في أدق و أتفه تفاصيلها و يغنيها ويحاول أن يقدمها ويدفع بها. إن نجاح معتقل في خلق شروط لصمود أمه أو زوجته خارج السجن وربطهم بقضيته التي يناضل من أجلها لهي خير دليل على ما يختزنه من إرادة و إبداع.
السجن كمخطط إبادة ما هو إنساني في المعتقل المناضل، يأخذ على عاتقه كمؤسسة قمعية توقيف الرأس المفكر، مادام الرأس المفكر هو أصل البلوى في نظر الجلادين. وعندما يرفض الفكر واقع المحاصرة فهو يخلق قنوات ونوافذ يتسرب منها ليلتحم بالعالم الخارجي. لكن مع ذلك فالسجن، بزنازينه، بحياته الرتيبة المتكررة لا يوما بعد يوم ولكن عاما بعد آخر، يطبع هذا الفكر ويحمل في من الإحساس بالأشياء المفقودة إحساسا شفافا و مكبرا هذا النوع من الإحساس، ويرجع هذا إلى عامل العزلة المفروضة على المعتقل المناضل المبعد عن العالم الرحب الذي طالما شكل له الغذاء المتنوع، هذه العزلة تجعل درجة المعاناة أكثر توثرا، وهي عزلة إذا كان الهدف السياسي منها واضحا فينبغي رفع الصوت ضد استمراريتها، لأن القاضي الذي حاكم انطونيو غرامشي كان يستهدف رأسه المفكر، و وضع "رأس" في السجن لا يعني ممارسة القتل السياسي فقط ولكن تجميد كل أحاسيسه، رغباته، أمنياته، طموحاته، عشقه، و ماذا يبقى إذن بعد؟ إن عملية اغتيال الحرية في الإنسان المعتقل هي في حد ذاتها جريمة شنعاء. و المعتقل المناضل هو أكثر حساسية لعملية اغتياله. إذ تصبح علاقته بالأشياء بدائية يحكمها قانون المعاشرة على حد تعبير الأنتربولوجيين. فالوعي بالسجن كممارسة دقيقة للصراع الطبقي يواجه فيها المعتقل المناضل جلاديه في أدق مخططاتهم الشنيعة ضد الحرية و تكون المواجهة هنا بكل الوسائل رغم محدوديتها. و الكتابة تكون لها تلك الخصوصية الآتية من دقة الآلة القمعية و الإحساس الشديد بمخطط اغتيال إنسانية الإنسان. ولهذا يكتب المعتقل المناضل لأنه يرفض صورة المجتمع الحالية و الكتابة جبهة لإعلان ذلك الرفض.
"إن ما قدمناه من تضحيات إنسانية في مواجهة إجرام الطغمة الفاشية و الإرهابية، و المقاومة التي جسدناها، و أصواتنا المرتفعة في محاكمها، لابد أن تصل إلى الجماهير"

0 التعليقات:

إرسال تعليق