في: 06 يونيو 2017
السجن المحلي بتازة ــ
المغرب ــ
المعتقل السياسي: طارق حماني
رقم الاعتقال:70421
المدرسة بدل السجن من
أجل انبثاق مغرب آخر.
ملاحظة:
تم إنجاز هذا الموضوع في شهر أبريل.
(1 المدرسة بدل السجن.
إن السجن ليس إلا أحد الجوانب المظلمة، أحد النقط السوداء، من لا
إنسانية الإنسان، هو إنحراف الإنسان وتخليه عن إنسانيته، هو أحد جوانب قهقرة
المجتمع النسبية في صيرورة حركة تقدمه المطلق، إنه ليس مؤسسة للعقاب على ممارسات
ضارة بالمجتمع، بل تلك مجرد بعض مبررات قيامه إلى جانب مؤسسات قمعية أخرى قائمة
لطمس عجز المجتمع نفسه عن الخلاص من أمراضه ونقائصه وتقيحاته، تعبير عن بقع مظلمة
وسط مساحة نور شامل غير منتهية. إن السماء تتسع للجميع كما الأرض، كما الشمس تكفي
للجميع، كما الهواء ضروري وكافي للجميع أيضا. ما دام أن السجن لم يثبت من جميع زوايا
العلوم الإنسانية، ومن جميع زوايا الواقع منذ ظهوره كمؤسسة للقمع في التاريخ لم
يثبت أنه عالج أو قضى على واجدة كم مجموع الممارسات التي تؤدي بفرد من المجتمع إلى
الإلقاء به في ظلام السجن.
علما أن القانون، الذي يجرم ممارسات مجددة ويسمح بأخرى، موضوع من طرف
البشر، وهؤلاء البشر يوجدون داخل المجتمع وليسوا منزهين ولا ملائكة ولا آلهة، بل
هم بشر مشدودين إلى واقع عصرهم ومجتمعهم، بل وما داموا يطرحون هذا القانون من
الموقع الرسمي أو السائد فإنهم يمثلون الفئة المحافظة من رجال ونساء القانون، إنهم
مشدودين إلى تقاليد هذا المجتمع وعاداته وحتى قوانينه القديمة الرجعية البالية،
لأن أي قانون مهما كان جديدا ومراعيا لمستجدات المجتمع والحياة فإنه ما إن يوضع
ويخرج لحيز التنفيذ حتى تأخذ الشيخوخة تدب فيه شيئا فشيئا، فيصير محافظا رجعيا، في
حين أن الناس الذين يحيون داخل المجتمع يستمرون في إبداع الجديد، واكتشاف الأحسن
والأفضل وييسرون نعم الحياة وكمالياتها، لذلك فإن ممارسات عديدة كانت تجرم من قبل
داخل المجتمع أصبحت في مجرى التاريخ وتقدم المجتمع مسموح بها، بل ويشجع على
ممارستها، أو على الأقل القبول بها ما دام أنها لا تضر بحياة أي شخص، فما بالك عن
أخرى تحسن وتنمي وتطور الملكات الفكرية والحسية... الفردية والجماعية للأشخاص
وحياتهم، كحرية الإبداع، الفن والمسرح، النحت والرسم والكتابة، مثلا. ومن جهة أخرى
تم منع أخرى كانت تبدو ممارستها طبيعية.
فكم من مرة ثبت أن مبدعاً أو مفكراً اقتيد إلى السجن لأنه ألف كتابا
ــ مثلا ــ يحمل على صفحاته اكتشافا علميا جديدا، أو يضم أفكارا جديدة لجانب من
مناحي حياة الناس، ومنظورا جديدا تقدميا للحياة ككل أو لجوانب منها، وبعد مضي زمن
معين عن تأليفه يصبح ذلك الكتاب بمثابة فاكهة نادرة لذيذة في زمن القحط والجوع،
يقبل عليه الجميع وبلهفة ويروج له بشكل واسع، وفي التاريخ أمثلة عديدة عن هذا، كما
لدينا في المغرب أمثلة مميزة لشكل من المنع الذي يمارس على المفكرين التحرريين
المدافعين عن قضايا معينة عبر ممارسة التعتيم عليهم داخل المغرب طيلة حياتهم، علما
أن لديهم حيث ومكانة قوية من خلال مؤلفاتهم خارج حدود المغرب، ولا يتم الإلتفات
إليهم من الموقع الرسمي، وبشكل عابر ومنافق في محاولة لمحو وسمة عار منعهم أثناء
حياتهم، إلا بعد وفاتهم، كما حدث مثلا مع فاطمة المرنيسي ومع المهدي المنجرة ... .
وهناك لدينا أيضا من يتم منع نشر مؤلفاتهم بالمغرب، ومنع صحافيين من النشر لسنوات.
إذن كيف سيتم التكفير عن سنوات المنع أو الاعتقال لذلك المفكر ؟، هل فقط بتجديد
بعض فصول القانون، وترك أخرى ملغومة ؟.
الكثير من الناس في التاريخ كانوا ضحايا قانون وضعه أناس آخرين، فما
الذي يجعل فعلا معيننا مُجَرَّماً وفعلا آخر مسموحاً ؟. وما الذي يجعل أشخاصا
يعاقبون بهذا القانون وأناساً آخرين يبقون فوقه ؟، هل نحن في مجتمع البشر أم في
مجتمع ملائكة وبشر ؟، كيف يعقل، مثلا، أن لا يعاقب أولائك الذين يعتبرون مسؤولين
في مؤسسات ومهام معينة عندما يبذرون أموال عمومية عبارة عن ميزانيات طائلة حصلت من
جيوب الشعب، كان من المفروض أن تذهب لإنجاز مشاريع معينة، لتعود بالفضل على الشعب،
بدل أن يضعوها في حساباتهم الشخصية، وحتى عندما يتم محاسبة ومعاقبة البعض على مثل
هذه الممارسات المرتبطة بنهب أموال الشعب التي تعتبر من الجرائم الخطيرة، فإنه يتم
إصدار عقوبات مخففة في حقهم (قضية صندوق الإيداع والتدبير مثلا) تشجع على المزيد
من مثل هذه الممارسات، انطلاقا من مسؤولي تدبير ميزانيات مشاريع الجماعات المحلية
إلى أعلى المسؤوليات بالوزارات، ومن هذه الزاوية يمكن أن نناقش بلد القانون فعلا،
فليس فقط معاقبة الموظفين الصغار المحدودي الدخل الذين تضطرهم ظروفهم الاجتماعية
القاسية ومحدودية دخلهم إلى ممارسات ضارة، كالإرتشاء والسطو على مقدار مالي محدد،
مع أن الوضع الاجتماعي لا يبرر مثل هكذا ممارسة، بل معاقبته أيضا أولائك المسؤولين
الكبار الذين ينهبون ميزانيات ظخمة ويعثرون إنجاز مشاريع عمومية كبيرة، معاقبتهم
على قدر قيمة ما اقترفوه، لأنهم لا ينهبون المال فقط ليعيشوا في النعيم لوحدهم، بل
يسببون ضرر كبير للشعب ويؤخرون تقدمه وتطوره، وتابعنا جميعا كيف جرفت سيول أمطار
هذا الموسم في الأشهر الماضية طرق رئيسية وقناطر ادعي أنها أنجزت بملايير الدراهم،
وتابعنا أيضا كيف أغرقت أحياء سكنية بعدة مدن بسيول الأمطار لكون قنوات تصريف هذه
السيول لم تنجز بالمعايير المفروض أن تنجز بها، باستثناء وجود تلك المعايير في
دفاتر التحملات، وكلنا يتذكر قبل سنوات قليلة كيف غرق ملعب لكرة القدم ــ بمواصفات
عالمية حسب دفاتر التحملات ــ وتحول إلى مسبح بعد ساعات قليلة من التساقطات، وتحول
إلى مدعى للسخرية في قنوات إعلامية عالمية، خاصة أنه، ومن سخرية القدر، تزامن مع
احتضان منافسة عالمية لكرة القدم، مما سبب تذمرا لنفسية الشعب، لكن للأسف فنفسية
الشعب لا تعطى لها أي قيمة. ونتذكر أيضا قبل سنوات ما راج حول صفقة القطار السريع
" TGV". ولكن لنبقى فقط أمام الميزانية
الضخمة التي يتم الادعاء أنها صرفت ''لإصلاح التعليم" والتي تصيب الانسان
بالدهشة والصدمة عند سماع قيمتها المالية والتي بلغت، حسب ما أعلمه، بخصوص
''المخطط الاستعجالي'' إلى 3700 مليار سنتيم. ولكن يتم تضبيب رؤيتنا وتوهيمنا
بالتضحية بموظف صغير حصل على رشوة بمقدار 20 درهما، آه محاربة الرشوة بهذه الطريقة
جيدة جدا !!. إن هذه المقارنة البسيطة توضح أن القانون
ليس عادلا.
ولذلك أليس مريا بالمجتمع، ما دام أن السجن لم يثبت أنه
قضى على ممارسات تعد ضارة بالناس، أن يتم البحث عن أساليب وهياكل ومؤسسات أخرى
لعلاج أمراض المجتمع بدل السجن الذي يقوم على غرار مؤسسات قمعية أخرى على مبرر زجر
ارتكاب أفعال معينة، في حين أنه حقيقة يقوم لطمس وإخفاء عجز المجتمع عن الخلاص من
نقائمه وتناقضاته، وعدم إرادة التغلب على الأسباب التي تدفع أفراد إلى ممارسات
تعبر في نظر آخرين أو حتى في نظر المجتمع ضارة.
إن تعديل القانون ليصير إنسانيا معناه أن المجتمع قد صار
إنسانيا، وحينما يصير المجتمع إنسانيا فلن تكون هناك ضرورة لقيام السجن وبقائه،
وهذا ليس خيالا ولا هو بالبعيد عن الواقع، بل هو واقع قائم وكلما اتجه مجتمع معين
نحو تطبيق وتفعيل الديمقراطية بشكل متكامل وحقيقي، باعتبارها أسلوب في الحياة، في
ممارسة السلطة، في التمتع بالحقوق واحترامها ...، فإنه سيكتشف أن السجن مجرد مؤسسة
زائدة، فارغة، لا ضرورة لبقائها، وسيعمل على تهديمها وتشييد مكانها متحف أو قاعة
للسينما أو مسرح أو قاعة للرياضة أو مدرسة أو مكتبة ...، فمنذ زمن طويل كانت هذه
هي نظرة المفكرين الإنسانيين أمثال "فيكتور هيغو" الذي قال: '' افتحوا
مدرسة لتغلقوا سجن". وهذه القولة تلخص بعد نظر علمي وفكر إنساني ثاقب، تلخص
أيضا عملا كبيرا وأطنان من المؤلفات، وسنوات من العمل، ومصير العديد من الهيئات
والمؤسسات القائمة التابعة لجهاز الدولة، وربح نفقات كبيرة وتحرير واستغلال طاقات
بشرية كثيرة تضيع داخل السجن أو في العمل بالمؤسسات والهيئات واللجان القائمة على
الطريق المؤدي إلى السجن.
إذن المدرسة في مقابل السجن، العلم في مقابل الجهل،
الحرية في مقابل القيد، التحرر في مقابل الانغلاق والظلامية، التربية والمعرفة في
مقابل التجهيل والجهل، الإنسانية كتتويج للحضارة.
أعيد السؤال. هل هذا حلم بعيد عن الواقع ؟ لا طبعا.
والمثال نعلمه جميعا وسأقدمه عبر المقارنة، المقارنة بين البلدان التي تنعم بالديمقراطية،
المتشبعة بالثقافة الديمقراطية ونظام سلطة ديمقراطية، وتتمتع شعوبها بحقوقها وبين
البلدان التي تغيب لديها الديمقراطية كنظام للسلطة والتسيير وتفتقد لثقافة
الديمقراطية وثقافة حقوق الإنسان، ويغيب لديها وعي بحقوقها وممارسة هذه الحقوق.
إن هذه الأخيرة نجدها تولي أهمية وتركز على بناء السجون
التي تنتشر كالفطر على طول ترابها، بجميع مدنها وحتى في بعض قراها، كما تكثر من
الاعتماد على أعداد وقوى هائلة ومكلفة لميزانياتها بالأجهزة والمؤسسات الملحقة
بجهاز الدولة، مؤسسات وملحقات القمع المادي، البوليس، القوات المساعدة، الجيش،
المخابرات، التسلح، سن القوانين المجرمة لكل تململ نضالي،...، وهذا نموذج البلدان
التي تقوم بها أنظمة سياسية لا ديمقراطية، البلدان المتخلفة.
أما المثال الأول، نموذج البلدان الديمقراطية، فإنها
شرعت منذ مدة فعلا في تهديم السجون أو إغلاقها مؤسسة سجنية بعد أخرى، نظرا لأنها
أصبحت فارغة، لم يعد يقاد إليها أي سجين، وإن كانت لازالت لم تقضي على كل السجون
فوق ترابها، فإنها ابتدأت في اغلاقها، لأنها طبقت سياسة إنسانية من طرف أنظمتها
السياسية الديمقراطية، سياسة تشييد مدرسة قصد إغلاق سجن، والتي أفضت إلى حقيقة
قائمة لازال البعض ببلدنا يعتقدها حلما وضربا من الخيال وطوباويا، أو يحاولون
إخفاءها، وهي أن السجون لم يعد يقاد إليها أي شخص تقريبا، وبالتالي لم تعد هناك
حاجة للحفاظ عليها، والانفاق عليها، أو على الأقل ضرورة النقص والتقليل من عددها
تدريجيا، باتباع سياسة مدرسة ضد سجن، وكذلك اعتماد عقوبات رمزية (كالسوار
الإلكتروني، والأشغال والأعمال ذات الطابع الخيري والجمعوي...)، والتي تؤدي
بالتدريج وبدون انتكاسة إلى اضمحلال السجون، هذا يفرض أيضا وبشكل مباشر نقص
والتقليل من عدد وحجم الهيئات والأجهزة الملحقة الأخرى. وهذا مثال قائم نجده
بالبلدان الاسكندنافية. والتي تطلعنا الأخبار الواردة منها في السنين الأخيرة على
إقدامها المتوالي على إغلاق سجن بعد سجن، بينما ببلادنا تقدم لنا أخبار تشييد سجون
جديدة تكلف ميزانيات طائلة إضافة إلى دورها القمعي، بافتخار وبمزايدات
و''عنتريات" بين قوى سياسية تتناوب على "التسيير"، كما أنها قامت
بإنجاز لم يسبق له أي بلد من قبل، كما لو أنه انجاز انساني سيحمل الشعب من براثين
الجهل والتخلف إلى مصاف التقدم والإزدهار، في الوقت الذي يعيد فيه السجن إنتاج
أخطر الانحرافات ومظاهر الضياع، وفي نفس الوقت تقوم فيه بنهج سياسة إغلاق المدارس بشكل
متوالي. فما تعيشه شعوب البلدان الديمقراطية نعيش نحن كشعب نقيضه.
نظام بلد معين بدأ في إغلاق السجون الواحد تلو الآخر،
ويرفع في المقابل من مستوى علمية وجودة التعليم وإلزاميته للجميع وعلى قدم
المساواة، أما المدارس والجامعات والمختبرات والمعاهد العلمية بها فلا داعي للحديث
عنها وعن مستوى وجودة وتنوع خدماتها فهي تصنف في المراكز الأولى عالميا، ونظام بلد
يقول عن نفسه ديمقراطيا يغلق المدارس ويفتح في مقابلها السجون والزنازن. وإن اقدام
أنظمة تلك البلدان على إغلاق سجون باتت فارغة لم يأتي دون عمل، بل هو عمل كبير
ومشروع مجتمعي إنساني متكامل وشامل، يتمحور حول منح أفراد المجتمع حقوقهم
الاقتصادية الاجتماعية الثقافية السياسية، أي المستوى العالمي للتعليم العام
المجاني ذو المضمون العلمي الهادف، وتوفير الشغل المناسب للجميع وفي شروط تحفظ
الإنسانية، تطبيب ذو جودة مجاني للجميع دون شروط ودون مماطلة، إقامة مؤسسات وأنشطة
للتثقيف الهادف والتوعية ورفع الذوق الفني والتحسيس والتربية على التضامن والتعاون
...، لذلك ففكرة مدرسة ضد مؤسسة سجنية، هي فكرة شاملة وليست ضيقة.
وهذا ليس فرقا بسيطا بل هو تناقض صارخ، يشمل جميع مناحي
الحياة، بين بلد تحولت فيه الديمقراطية إلى أسلوب للحياة، إلى ثقافة، إلى فن
للعيش، وبين بلد تغيب فيه الديمقراطية وجميع الحقوق الإنسانية. فحيث تغيب الديمقراطية
والحقوق الإنسانية يحضر القمع والسجن والترهيب.
لكن كما عولجت وتعالج قضايا ومشاكل من واقع المجتمع
مرتبطة بالفقر والمساواة والحرية والإعتراف بالحق في الإختلاف...، ووجدت لها حلول
عبر الديمقراطية في مجتمعات محددة، وأخرى وجدت حلول لبعضها وتقترب من حل الباقي
منها. فإنه وبشكل علمي ملموس مع إيجاد حلول للقضايا والمشاكل المجتمعية المرتبطة
بحقوق الإنسان والتقدم في التوزيع العادل للثروة والتمتع بالحقوق الأساسية
والاستفادة منها دون قيد أو شرط، سكن جيد، تطبيب جيد للجميع دون قيد أو شرط، تعليم
جيد علمي للجميع، توفير عمل لائق وبحرية، حرية الفكر والتعبير والإختلاف
والإحتجاج...، والذي كان الحرمان منها بالنسبة لأغلبية الشعب من طرف طبقة من
المجتمع مستأثرة بالخيرات هو سبب بروز القمع وتشييد السجون، فإن الإستفادة منها
وتحويلها إلى واقع معاش، وإلى ثقافة وفن للعيش ونمط للحياة، سيؤدي إلى الإستغناء
عن السجون كملحقات مادية قمعية لجهاز الدولة.
فسياسة إغلاق المدارس وضرب الحق في التعليم من جهة، وفتح
السجون وجعلها متأهبة لاستقبال ضحايا المجتمع أو الرافضين أو المناضلين ضد الوضع
القائم، هي سياسة ممنهجة، والقائمين عليها من خدام التحالف الطبقي المسيطر يتطرقون
إليها كما يتم التطرق إلى معادلة رياضية، لحل طرف لا بد من ضرب الطرف الثاني، فهم
يعلمون ما يشكله التعليم بالنسبة للشعب، خاصة من ناحية رفع الوعي، وإيصال الناس
إلى التساؤل عن سبب عشقهم في أوضاع مزرية أو أوضاع اجتماعية كلها خوف من المستقبل،
مستقبلهم الشخصي من ناحية العمل أو التطبيب في حال ما مرضوا، من ناحية تدبير
تكاليف المعيشة، والخوف على مستقبل أبنائهم...، مع التساؤل في نفس الوقت عن سبب
وجود قلة قليلة من الناس داخل نفس مجتمعهم تنعم بالغنى الفاحش، وتتمتع بنعم الحياة
التي تفوق كل وصف، وعن أملاكهم اللامحدودة، وعن سبب استئثار هذه القلة بمناصب
معينة عليا، ووظائف حساسة، وبالتالي المطالبة بالمساواة وإقامة العدالة
الاجتماعية، وضرورة ووجوب التمتع بكل الحقوق الإنسانية الجماعية والفردية على قدم
المساواة بالنسبة لجميع أفراد المجتمع، والمطالبة بالديمقراطية، وعن جدوى ومشروعية
ومصداقية التناوب الشكلي الديماغوجي لأفراد قوى سياسية رجعية أو إنتهازية على
مناصب سياسية وإدارية داخل هياكل جهاز الدولة والإدارات والمؤسسات العمومية ..؟؟.
يقول المهدي المنجرة في هذا الصدد: "إن أولياء
الأمر، يخشون تبعات تعميم حقيقي للتربية. إذا كان مضمون هذه التربية يتطور حسب
حاجيات إعادة توزيع عادل للثروات، فهذا سيؤدي إلى إعادة النظر في مناصب النخبة،
مما يبرر تلك الحجة التي تتكرر على مسامعنا لصالح الإنتقاء، وهي حجة في نظري ليست
فقط مزيفة، لكن غير صادقة.". ويقول في مكان آخر: " في الواقع، إن
الأشخاص الذين يتقلدون المناصب الحساسة العليا يعلمون أن عدد المناصب الحكومية
محدودا. ويعلمون خصوصا، أن إعادة توزيعهم، سيجعل البنية الاجتماعية برمتها محط
تساؤل، وأن الشيء الوحيد القادر على زعزعة البناء الاجتماعي والإقتصادي الحالي،
على المستوى الوطني والدولي هو التربية. تخيلوا التغيير الكوني الفعلي، لو كان
اليوم ل 3900 مليون أو المليار من الأميين في العالم الثالث في مستوى الباكلوريا
أو الإجازة ؟".
وللحؤول دون أن يضطلع التعليم بدور كهذا يتم إستهداف
التعليم بإفراغه من أي مضمون علمي وتحرري، وإفراغه من كل ما يساهم ويؤدي إلى بناء
إنسان متكامل، بناء شخصية إنسانية سليمة، كل ما يؤدي إلى التسلح بثقافة الرفض
للظلم الحقيقي ومن جميع جوانبه عن أي كان صادراً. وثقافة التضامن واحترام حقوق
الإنسان والدفاع عن الحق الشخصي والحق الجماعي، خاصة حق الطبقات الشعبية المسحوقة،
إفراغه من كل ما يمكن أن يؤدي إلى إطلاع أبناء الشعب على الواقع الحقيقي القائم
والذي يجب أن يقوم بدله من ناحية مستوى العيش والحياة الحقيقية التي بالإمكان ومن
الطبيعي والواجب أن يعيشها أفراد المجتمع في العلاقة مع الثروة الحقيقية للبلد
وخيراته الطبيعية، ثرواته المادية وكفاءات أبنائه. حياة طبيعية للإنسان تتمتع من
أول العمر إلى آخره بجميع الحقوق، بدءا من عيش طفولة طبيعية متزنة، ودراسة وتعليم
في مستوى الطموح الإنساني ووفق الإختيار الفردي بما يتماشى والرغبات والطموحات
الفردية، والحق في الحصول على عمل مناسب ماديا ومعنويا ويراعي ويحقق التوازن
النفسي للإنسان، مع الحق في الإستفادة من وقت كافي خارج العمل المهني يخصصه الشخص
لمزاولة هواياته وأنشطته التي يحقق فيها ذاته وإنسانيته وميولاته الفردية مما يحقق
إتزانه النفسي وينمي قدراته وملاكاته الإبداعية الفكرية والفنية والعلمية
والرياضية أو حتى المرتبطة بالإعمال الإنسانية الاجتماعية داخل المجتمع. وكذلك وقت
كافي لتخصيصه للأسرة والإهتمام بها. وصولا إلى ضرورة الحصول على تقاعد في سن مناسب
وبتعويض مناسب.
بل ويجعل بالنسبة لهم ضرب حق الشعب في التعليم بالحرمان
التام والإقصاء والطرد من المدرسة والجامعة عبر العديد من البنود والصيغ
البيداغوجية التي تتناسل باستمرار لجعل أكبر عدد ممكن من أبناء الشعب خارج مجال
التعليم، خارج المدرسة. وهذا الطرف من المعادلة عندما يحل بهذه الطريقة يجعلهم في
نصف المعادلة المقابل يشيدون ويهيؤون السجون التي تفتح أبوابها لمن حرموا من
المدرسة، من حرموا من حقهم المقدس في تلقى تعليم علمي وثقافة وفكر إنسانيين
تقدميين وما يستبع ذلك. فإغلاق المدارس يقابله فتح أبواب السجون على
مصراعيها، وفتح المدارس يقابله إغلاق السجون والاستغناء عنها.
توفير التعليم ومحاربة الجهل وبناء شخصية إنسانية
متكاملة خاصة من الناحية النفسية المعنوية وتوعية أفراد المجتمع، وتربيتهم على
الإختلاف وعلى احترام حقوق الآخرين وحقوق الإنسان هي من مسؤولية النظام القائم عبر
المدرسة والجامعة، عبر الكتاب المدرسي والمعلم، عبر التلفاز والجرائد ومؤسسات
المجتمع المدني ودور الشباب، عبر الموسيقى والرياضة والحوارات التواصلية الهادفة
مع الناس،.... وليس من مسؤولية أفراد محددين ولا حتى الأسرة والتي تعتبر
مؤسسة مهمة من مؤسسات التربية والتنشأة، لأن الأفراد مهما سمو لن يتجاوزوا حدود
إمكانياتهم البسيطة، وكذلك الأسر فهي نتيجة تكوين سابق تتحدد بالثقافة السائدة
وبأسلوب الإنتاج المتبع وبالتكوين والتعليم السابق من عدمه، هل هي أسرة متعلمة
مثقفة أم أمية ؟ واعية أم جاهلة ؟ ما حدود وعيها أو جهلها ؟ ما حجم المشاكل
المرتبطة بتدبير تكاليف الحياة بداخلها والتي تصرفها عن التركيز على التربية والتوعية
لأفراد الأسرة الناشئين والذين يعتبرون المستقبل، أسر المستقبل ؟ والتي ينطبق
عليها قول ماركس: "كل مربي هو في حاجة إلى التربية".
إذن فالتربية والتوعية مع أخذ بعين الاعتبار مضمون هذه
التربية والتوعية هو من مسؤولية مؤسسات النظام القائم المذكورة، أكثر منه مسؤولية
الأسرة أو الفرد في حدّ ذاته. وأمام غياب أو عدم قيام المؤسسات السالفة الذكر
بالدور هذا المفروض أن يضطلعوا بالقيام به، وأمام كذلك ثقل وقساوة الواقع المزري
على الأفراد وعلى أسرهم يدفعنا الواقع والمنطق السليم، من جانب محدد، إلى التساؤل
كيف يحاسب فرد ويعاقب بالسجن في الوقت الذي لم يقدم إتجاهه أي شيء، لم يوعى ويدرس،
لم يوفر له أي منصب شغل، واقعه الأسري المادي مزري...، ويرفع في وجهه ذلك الشعار
اللامسؤول الذي يقول: "لا يعذر أحد بجهله للقانون"، أليس هذا تملص من
المسؤولية ؟ وقد يرد هنا شخص ما ويعتبر الفكرة غير سليمة بتاتا، ويقول متسائلا: هل
يجب التسامح مع ممارسات تضر الناس والطبقات الشعبية بالخصوص ؟ !، وهناك من
سيستحسن الفكرة ويقول: متى وكيف نحقق هذا ؟ !، لذلك فإني
أدعوا إلى التمعن بعمق في جميع الأفكار والوقائع التي أعالجها هنا، فمن المهم
الإنتباه إلى أن مضمون القانون وكذا تنزيله هو ذو أبعاد طبقية، بالاستناد أولا
وقبل كل شيء إلى سؤال، عن ماذا ومن يعاقب ؟ وعن ماذا ومن لا يعاقب ؟، ثم إن الحلول
تأتي في إطار مشروع مجتمعي شامل ومتكامل إنساني في عمقه كبديل يهدف فيما يهدف إلى
محو وضرب أسس ''الجريمة والعقاب"، وحينما أقول مشروع فإن ذلك يعني أنه ليس
حلا سحريا، بل حلا واقعيا علميا ملموسا شاملا، يبتدئ اليوم ـ مثلاـ لكن أفقه يبقى
مفتوح ما دام أن الواقع عنيد، وتوجد معارضة القوى الرجعية المحافظة، إنه معركة شعب
ضد الفقر، ضد الجهل، ضد التمايزات الطبقية، ولا يعني في الوقت نفسه أن نتائجه
بعيدة التحقق، بل على العكس، ففي ظرف فترة قد تكون وجيزة ستبرز وتتحقق النتائج
المرجوة تدريجيا، خاصة إذا توفر نظام سياسي يبلور ويرعى ويطبق مثل هذا المشروع،
وفي التاريخ أمثلة عديدة لشعوب قفزت بقوة وبسرعة في سلم التقدم وفي ظرف وجيز، مع
وجود قيادة سياسية أو نظام اقتصادي اجتماعي ثقافي سياسي تقدمي شعبي.
وإنني سأعود للتطرق لدور التربية والتعليم وأهميتها فيما
أنا بصدد معالجته، وبالارتباط بعدم قيام الجهات الرسمية المعنية بمسؤوليتها في
التربية، وهو ما سأحاول توضيحه بأمثلة محددة أراها مهمة وتثير تساؤلات عميقة عن
الموضوع.
(2 أمثلة وتساؤلات للتوضيح: جوانب
من انعكاسات الحرمان من التعليم.
فكيف يتم معاقبة أفراد على ممارسات معينة في الوقت الذي
لا يشكل ذلك الفرد إلا حالة مهملة الوزن أمام ضخامة كتلة منظومة تربوية ثقافية
اقتصادية اجتماعية سياسية تعاني من خلل هيكلي لا علاج له، تفوق قدرات الأفراد
وتنزل بثقلها المادي والروحي على كيانهم.
فالذين يقادون يوميا إلى السجون وبالمئات ببلدنا هم
ضحايا لسياسات طبقية منتهجة وليسوا مجرمين فعلا أو بالفطرة، أو أنهم إختاروا أن
يعيشوا بالسجون أو يدخلوا السجون، كما أنهم لم يختاروا تلك الممارسات التي أدّت
بهم إلى السجن، فالذي يقوم مثلا بممارسة معينة أو الإقدام على فعل محدد يكون سببا
في اقتياده إلى السجن وفق القانون المعمول به، والذي سأتجاوز مضمونه الرجعي والطبقي
مؤقتا، لم يكن مخيرا ولا له بديل عنه. من أيه ناحية ؟ وكيف ؟.
توفير عمل لائق وبأجر يحفظ الكرامة أو الإنسانية، إذا
دققت التعبير، هو من مسؤولية النظام القائم. فإذا وجد عمل للجميع وللشباب بالخصوص
الذين تنحصر أعمارهم بين 20 و 30 سنة، والذين يشكلون الأغلبية الساحقة بالسجون، لا
أظن أن أحدا،مثلا، سيلجأ إلى بيع المخدرات بالتقسيط أو بالغرامات أو بيع سنتيلترات
أو حتى لترات من الخمر لكي يعيش منها حياة كلها مخاطر ومغامرات مؤلمة وهرب من
المطاردات البوليسية، والتي يعلم أنها في الأخير ستؤدي به إلى السجن. وفي مثال آخر
له أكثر من دلالة وأكثر من رمزية ويعبر عن أحد تجليات أزمة التربية والتعليم
(مضمونا، منهجية وثقافة)، وكذا عن لا مسؤولية الجهات الوصية على القطاع، وسيطرة
المنظور القمعي البوليسي في حل أبسط المشاكل التي تنتج عن سياسة النظام القائم في
حقل التعليم والتربية والتكوين بالخصوص، والتي يروح ضحيتها تلاميذ في مقتبل العمر
إن لم أقل صغار السن.
هذا المثال يرتبط بكيفية التعاطي مع ظاهرة الغش في
الامتحانات، حيث كان سهلا بالنسبة للجهات التي تدعي المسؤولية بهذا الشأن أن تسن
قانون مجرِّم للتلميذ وأن تعتقله وتلقي به في السجن، كما حدث الموسم الماضي أثناء
اجتياز التلاميذ لإمتحانات الباكالويا، بدل أن يتم البحث عن الأسباب الحقيقية التي
تدفع التلميذ للجوء إلى الغش، والتي تلقي بجذورها في عمق المنظومة التربوية
والتعليمية، له علاقة بالمناهج والبرامج التعليمية، وبطريقة التلقين والتقييم،
تلقين يعتمد الحشو الآلي للنصوص والدروس، مهما كان مجال تخصصها، في أدمغة التلاميذ
وبطريقة ميكانيكية، والتقييم عبر امتحانات تعتمد استنساخ الأجوبة من الدروس بدل
الاعتماد على طرق لإبراز المهارات العقلية والفكرية الإبداعية للتلميذ أو الطالب
في الإجابة، الإبداع بدل التكرار. وليس مفاجئا أمام هذا أن تصدر تقارير مؤسسات
تتابع وضعية التعليم بالمغرب (مؤسسات داخلية وخارجية) كشفت عن أن التلاميذ
المغاربة ضعاف المستوى في الرياضيات والفزياء وفي اللغات الثلاث العربية الفرنسية
الإنجليزية، إذن ماذا بقي لهم ليتوفقوا فيه ؟ ولماذا هذا الضعف ؟ !. ولأبقى
مرتبطا بهذا المثال (الغش في الإمتحانات)، أليس حريا ومن الواجب البحث عن طرق
تحسيسية بالموازات مع ضرورة تغيير المناهج والبرامج وطرق التلقين، وطرق توعوية
تلقن للتلميذ، كون "الغش" هو ثقافة أيضا مكتسبة، وذلك (التوعية) عبر
مضمون البرامج التعليمية بالأساس وباستمرار طيلة سنوات الدراسة لا عبر وصلات
إعلامية مؤقتة ومتطفلة محدودة تبث بالموازات مع فترة إجتياز التلاميذ للإمتحانات
والتي لا تعبر في حقيقة الأمر إلا عن أحد أوجه أزمة عامة يتخبط فيها أولائك الذين
يدعون المسؤولية بالبلاد، والمتجلي في غياب المشاريع للعمل وغياب منظور وبديل شامل
علمي ليتم العمل به من أجل حل المشاكل والقضايا المتأزمة بجدية ومسؤولية ذات أفق
قريب، متوسط وبعيد وجدلي. وعندما تغيب المشاريع المؤسسة المسؤولة تحضر الخرجات
والوقفات والإجراءات الموسمية، وهذا التجلي لا نلاحظه فقط في الوقوف على ظاهرة
عميقة كالتي أعطي المثال بها هنا، ولكن نجدها أيضا عند التظاهر بعلاج قضايا كبرى في
المجتمع، والتي تخفي عدم الإرادة والرغبة في التغيير أصلا. وأني أتسائل مع هذا
المثال. هل تم حل مشكل الغش في الإمتحانات عن طريق إعتقال عينة من التلاميذ
والإلقاء بهم في السجن ؟ تلميذ من قاعة الإمتحان بالمدرسة إلى ظلام الزنزانة
بالسجن وهو في سن صغير (17 سنة أو 18 سنة مثلا)، يا لها من صورة واقعية تؤلم في
ضمير الإنسان، فأي ضمير لأولائك الذين شرعّوا قوانين تدخل التلاميذ إلى السجن،
وحاولوا بذلك إخفاء وتقزيم أزمة منظومة تعليمية في أطفال صغار السن ؟ !.
وفي مثال آخر يبدوا منظره غريب لفرد يوقف سيارته التي
تطلق ضجيج الموسيقى أمام باب الثانوية أو الجامعة، أليس هذا مثال يعبر عن أزمة وعي
عميقة داخل المجتمع، فهل هذه المسؤولية فرد لوحده ؟ أليس هذا تعبير عن خلل في
التربية والتوعية ؟.
مثال آخر. هل الفرد لوحده مسؤول عن الطريقة التي يحل
بها، مثلا، مشاكله مع الآخر، والإختلافات البسيطة أو المعقدة، عن طريق العنف
المادي والمعنوي، فهل اللجوء إلى مثل هذه طريقة لحل الخلافات واختلاف الآراء هو
مسؤولية ذلك الذي مارسه لوحده ؟ أم هو راجع لنمط معين من التربية والثقافة السائدة
داخل المجتمع ؟ فهل أفراد المجتمع وعبر مؤسسات عدّة منها الأسرة والمدرسة
والتلفاز، تم تلقينهم وتربيتهم بشكل منهجي علمي وباستمرار، وتشييعهم بثقافة جوهرها
الإنسان، التضامن، الحوار البناء والإنصات والإحساس بمشاكل ومعاناة الآخر الذي قد
يكون هو نحن في نفس الوقت ؟ هل يتم تربية أفراد المجتمع على ثقافة حقوق الإنسان،
واحترام الحقوق الإنسانية والتوعية بها ؟، وهذا مشروع مجتمعي كبير، يبتدئ من
الأسرة، لكن الأسرة يجب أن تكون بدورها قد تلقت تكوينا علميا في التربية، متشبع
بما أشرت له وبغيره على نفس المضمون، مع ضرورة أن تتوفر لها الإمكانيات المادية
لذلك، وتتممه المدرسة والبرامج والمناهج التعليمية الهادفة والمحتوية على نفس
المضمون الإنساني الهادف، والبرامج التلفزية والإذاعية، ومؤسسات دور الشباب،
والمؤسسات الفنية كالمسرح والسينما ومعاهد الرسم والأكاديميات الرياضية،...، لكن
فوق هذه المؤسسات يقف النظام السياسي الذي ينظم ويشرف ويمول ويوجه كل هذا العمل.
وهذا المشروع ذو الأبعاد الإنسانية التقدمية، عبر مؤسسة ''الوزارة'' أو
"وزارات"....
أي أنه مشروع سياسي أيضا، إرادة سياسية يجب أن تكون لدى
القوى الاجتماعية السياسية التي بيدها سلطة القرار، والتي بإمكانها من موقع السلطة
السياسية، أن تطرح مثل هذه المشاريع المجتمعية أو تتبناها وتنفذها. وهذا ما ذهبت
في إتجاهه بلدان محددة حيث تفاعل الشعب أو قوى الشعب الحية مع السلطة السياسية
الديمقراطية وحققت مشاريع إنسانية كبيرة على هذا الطريق، لكن نحن كشعب يغيب لدينا
كل هذا، لكون السلطة السياسية الديمقراطية، النظام السياسي الديمقراطي، غائب. لم
يستطع الشعب أن يوجده بعد.
إذن، ماذا تربي اليوم، ماذا تعلم اليوم، ماذا يلقن
لأدمغة الناس اليوم، أية ثقافة، أي فكر، أية أخلاق، أية نظرة إلى الآخر تعلم اليوم
؟ لتعرف جيل الغد، مجتمع الغد ؟ ماذا يُنتَج وما يعاد إنتاجه ؟ فما سنكون عليه الغد
كشعب يتحدد انطلاقا من اليوم. ودائما وإن يبدوا هناك تأخر، توجد فرصة في المتناول
يجب استغلالها للإنتقال إلى وضع أفضل على جميع المستويات. لذلك يجب إبقاء شعلة
الأمل والتفاؤل متقدة.
يقول المهدي المنجرة: "بعضهم ارتبك عند إحتمال
تعميم التعليم، ويفترض أنه سيصبح من الصعب العثور على حمال في محطة القطار، أو
حارس أو كناس أو ما شابه ذلك...
إن الخوف قائم بسبب غياب الشجاعة لتصور مجتمع مغاير
تطبعه المساواة. جميع مناهجنا التعليمية، تحض الناس على التمسك والدفاع عن الهياكل
الموجودة كوسيلة لبقائهم الشخصي. وإذا رفعنا في المستقبل هذا المجتمع إلى المستوى
الذي يصبح فيه المرء مهما وأساسيا، فإن الوضع يستوجب تصور علاقات مغايرة
تماماً." إنني لا أنكر دور الأفراد على هذا المستوى أو دور جمعيات معينة لها
أدوار تحسيسية وتوعوية، كبعض الجمعيات الحقوقية، إلا أن أدوارها تبقى محدودة بإمكانياتها،
إن لم تتعرض للتضييق والمنع. فمتى كان الأفراد مسؤولين عن ممارسات محددة في ظل
غياب ثقافة حقوق الإنسان والتشبع بها، إنه مشكل أو قضية ثقافة سائدة داخل المجتمع،
وقضية الواقع الاجتماعي المزري المطبوع بالفقر وغياب الشغل بالنسبة للشباب، وانسداد
الأفق، تضييق مساحات الحرية، الشي الذي يدفع الفرد الذي لم يجد مجالا ولا فرصة
لتصريف طاقاته وتحقيق تطلعاته وطموحاته البناءة في الإبداع والإبتكار وتشييد ما هو
صالح له وللناس، يلجأ إلى تصريف تلك الطاقة التي تتحول، بفعل القمع والكبث الغير
مطاق الممارس بأشكال عدّة من قبل مؤسسات المجتمع ضده، تتحول إلى طاقة تدميرية
للشخص نفسه ولمحيطه الذي قد يكون أسرته أو أصدقاءه أو المجتمع ككل.
وفي هذا السياق نجد بعض الأفراد داخل مجتمعنا، ممن حقنوا
بحقن ثقافية عدمية في الموقف من الآخر، يحاولون ممارسة نوع من الوصاية على الآخر
داخل الفضاء العام، بأن يكون مثل ما يريدونه أن يكون أو يلغونه، وهذا ما نلمسه،
مثلا، عندما يحاول البعض التحكم في الأذواق والإختيارات الشخصية للآخرين، أو فرض
مظهر معين عليهم، بل وتكفيرهم وطردهم من الدين واستباحة دمائهم. وهذا يطرح أكثر من
سؤال، لا حول الفرد الذي قام أو حاول القيام بالوصاية على حياة واختيارات وأذواق
وآراء الآخرين فقط، بل أيضا حول كيفية وطريقة التربية والتعليم التي جعلت منه تربة
خصبة لاستقبال أفكار رجعية منحلة ظلامية، وأن يعطي بالتالي الحق لنفسه في ممارسة
هذه الوصاية على الآخر، بالقوة والعنف، خاصة إذا كان مضمون ما يحاول فرضه لا
يتماشى وتطور المجتمع وتقدم الإنسانية، وكذا تطلعات الأجيال الصاعدة في غد ومستقبل
أفضل، ولا يقيم حقوق الإنسان، ويمس بحرية وحقوق الآخرين. وهذا التعاطي والممارسة
من هذا المنطلق غير السليم يدفع من الطرف النقيض أولائك الذين قمعت حريتهم بشكل
كبير، إلى القيام بممارسات نقيضة متعمدة تحمل شعار الحرية الفردية، لكنها في عمقها
تهدم وتكسر وتعرقل مشروع بناء مجتمع متحرر، مجتمع الحرية والمساواة والتضامن
والإحترام، المجتمع الإنساني المنشود. كيف إذن أمام غياب مسؤولية المؤسسات المعنية
التي أشرت لها أعلاه خاصة في التربية والتوعية، أن تسجن فرد تجسد فيه سلوك معين،
دون البحث عن أي حلول أو بدائل أخرى، فهل بالسجن تحارب سلوك أو فعل ضار بالآخرين،
إذن دائما يتجدد سؤال التوعية والتربية بدل العقاب بالسجن أساسا.
ولأزيد من الأمثلة التوضيحية. فإستهلاك المخدرات أليس
ثقافة ووعي ؟ أليس محاولة الفرد للهروب من الواقع المزري الذي يعيشه، أو من أزمة نفسية
ألمت به، محاولة من الهروب من واقع ومشاكل واقع عجز عن إيجاد حلول لها، الهروب من
مآسي أسرية ومجتمعية وفردية يعيشها، وأمام عجزه عن تقديم حلول لها، يلجأ إلى
استعمال المخدرات لكي يتناساها ؟. ونفس الشيء تقريبا بالنسبة لإحتساء الخمر. وإذا
علمنا أن أغلبية المدمنين، يبدؤون في تعاطي المخدرات في سن مبكر، خاصة في فترة
المراهقة، ونعلم مدى حساسية هذه الفترة من عمر الإنسان حسب اختصاصيي وعلماء النفس
والتربية، ألا يطرح هذا سؤال التربية وسؤال دور المدرسة.
وإذا ربطنا هذا بسياسة التعليم الطبقية المتبعة بالبلاد،
حيث نجد أن في هذا السن بالضبط، والذي تبدأ فيه، بقوة أكبر، معالم تشكل شخصية
الفرد، يتم تركيز إقصاء التلاميذ من أبناء الطبقات الشعبية المفقرة من الحق في
متابعة التعليم، غذ يحدد ''المخطط الاستعجالي"، في قطاع التعليم، أن مسؤولية
المؤسسات الوصية على القطاع والمعنية بتعليم أبناء الشعب تتوقف مسؤوليتها عن ذلك
عند التعليم الأساسي، وهو مستوى التعليم الذي يساوي على المستوى العمري للتلميذ سن
خمسة عشر (15)، ستة عشر سنة (16)، أي نفس الفترة العمرية التي نتحدث عنها.
فالبنسبة لأبناء الطبقات الشعبية المفقرة، عندما يرفع يد
الجهات المعنية عن التعليم، عندما تغلق في وجههم المدرسة، ماذا يقدم لهم ؟. إذن
تفتح في وجههم أبواب الإنحراف والمخدرات والجهل والفقر والبغاء والضياع. ومن ثم
تعبد لهم الطريق إلى السجن، وهو نفس الطريق الذي قاد آخرين لأن يكونوا أدوات في يد ظلاميي "داعش".
وهنا سأورد مثالا يعتبر في الفترة الحالية أخطر الأمثلة
عن تحول أفراد المجتمع إلى قوة وطاقة مدمرة رجعية، والتي كان لأوضاع داخلية
وخارجية دور في تحولهم من طاقات للبناء والإبداع والتضامن ولأنسنة المجتمع إلى
طاقة تدميرية هدامة للمجتمع ككل. وهو مثال الأفراد الذين يلتحقون أو يلحقون بصفوف
مقاتلي التنظيم الظلامي "داعش". فهؤلاء الأفراد هم نتيجة السياسات
اللاديمقراطية اللاشعبية المنتهجة، والتي انتهجت لعقود في حقهم من طرف الأنظمة
القائمة ببلدانهم، والتي حرمتهم من حقوقهم الأساسية، حقوقهم الاقتصادية الاجتماعية
الثقافية، نتيجة لعدم حصولهم على تعليم إما بشكل تام أو جزئي بعد إقصائهم منه،
لعدم حصولهم على عمل، وبسبب تلقيهم وتشبيع أدمغتهم المتعطشة والمتفتحة لتلقي
إجابات تشفي حرقة وآلام المعاناة في الواقع (البطالة، الفقر، ضعف التعليم، ضعف
الطبية أو انعدامها، تخلف البلد في مقابل تقدم وتطور بلدان أخرى...)، تشبيعها
بثقافة رجعية منحلة اقصائية، بدل ثقافة تحترم وتقدس إنسانية الإنسان، وتحترم الآخر
وتحضره بدل إلغائه، وتربيتهم وتكوينهم على التلقي دون الحق في طرح السؤال والنقد،
وعلى التنفيذ عملا بمبدأ "طاعة أولي الأمر"، وهي نتيجة لثقافة
"الشيخ والمريد'' التي تفرخ جحافل من الأفراد المسلوبي الإرادة والقرار
والضعاف الشخصية والمطموسي البصيرة، ليتحولوا إلى أدوات منفذة على أهبة الإستعداد
للتدمير والقتل الجماعي، فقط تنتظر الأوامر عن بعد أو عن قرب. يحرمون ويحللون من
منظور ديني كما تشاؤون، بحيث نصبوا أنفسهم أوصياء باسم الدين على حياة الناس، وعلى
تطبيقه على هواهم وعلى مقاسهم وتأويلهم الخاص. ومما يعبر عن أزمات نفسية يعيشونها
وعقد نفسية يعانون منها، هو أنهم يدمرون حتى البنايات التاريخية، أعمدة وأسوار وأبواب
بقيت صامدة في وجه الزمن وفي وجه قساوة الطبيعة لعشرات القرون، لتؤرخ لحضارة
إنسانية عريقة، وتنقل للمجتمعات والأجيال الحالية ثقافة شعب أو شعوب قديمة كانت
لها ثقافة ورموز وتصاميم بناء خاصة بها، من المفروض أن تحتضن كإرث إنساني عريق،
وكآثار للدراسة وللتعريف على حضارة تلك الشعوب التي رحلت أو تحولت، وكذلك كآثار
تغني الثقافة والحس الجمالي والذوق الفني للإنسان الحالي والآتي من خلال التعريف
بها كوجه للسياحة، مثلا. أليس إذن ما قام به "الداعشيون" في مدينة
"تدمر" الأثرية بسوريا، يطرح سؤالا عريضا عن ناس يتلذذون وينتشون بتدمير
أعمدة حجرية، لهم مشكل مع الحجر، مع حجر بقي صامدا فوق أو بجانب حجر آخر لآلاف
السنين. ومما ينم عن أن هؤلاء لا علاقة لهم بتطبيق الإسلام كما يدعون ولا بفهم عمق
رسالة الإسلام الذي كان في عمقه ثورة على أوضاع قائمة في منطقة معينة وداخل إطار
مجتمع مزقته إبان منتصف القرن السادس الميلادي تناقضات طبقية بين طبقتي مالكي
العبيد من أسياد قريش الأغنياء من جهة وبين العبيد وعامة الفقراء من جهة نقيضه،
فحمل للمضطهدين والمحرومين الفقراء تعاليم ورسالة بمضمون إنساني عميق، قصد تحريرهم
وإقامة مجتمع جديد يكون فيه الناس "سواسية كأسنان المشط"، فما ينم عن أن
لا علاقة لممارستهم بما يدعون، هو أن الإسلام في مراحل إنتشاره الأولى في التاريخ
قد وصل لتلك المدينة الأثرية ولآثار عمرانية أخرى، لكن لم يقم أي من أولائك
المسلمين الأوائل بتدمير تلك الآثار، ولم تشكل لهم أي مشكل نفسي أو وجودي. وإلا
لما كانت بقيت قائمة إلى أن يظهر هؤلاء، ونفس الشيء عن ما قام به أولائك الظلاميين
"الدواعش" بمتحف الموصل بالعراق الغني بالتحف الأثرية النادرة التي تعود
لآلاف السنين، من تذمير ونهب وتهريب للبيع بعيدا عن أماكنها الحقيقية. (إبقاؤها في
مكانها حرام وبيعها لمافيات تهريب التحف الأثرية حلال !). فهؤلاء
الذين لهم مشكل مع حجر ساكن لا يتحرك، كيف سيتعايشون أو يقبلون بالآخر الذي يختلف
عنهم، في طريقة حياته ولباسه وثقافته ومعتقداته...، إذن كيف أنتج هؤلاء الذين
يحرمون كل شيء، أو لم ينتجوا (الإنتاج المقصود وغير المقصود) عبر سياسات شملت كل
المجالات داخل المجتمعات الذي انحدروا منها ؟ سياسات انتهجت لعقود، بشكل مباشر،
داخليا من طرف الأنظمة القائمة ببلدانهم، وكذا سياسات لها بعد عالمي تداخلت
وتكاثفت لخلق الوضع القائم راهنيا، أي سياسة الإمبريالية العالمية.
إن شعوب بلدان عديدة عبر العالم تفتقد إلى مثل تلك
الآثار العمرانية والمآثر التاريخية على أراضي بلدانها، وإن كانت تلك المآثر
العمرانية التاريخية هي في الجوهر إرث وملك للإنسانية جمعاء، والشعوب التي تفتقد
لمثل تلك المآثر هي من تعرف قيمتها التاريخية والحضارية والفنية والجمالية ودورها
في تنمية القيم الإنسانية...، ولو كانت على أراضيها لجعلتها بمثابة شعلة النار
المقدسة تحرسها، بكل ما تملك من قوة وخبرة وعلم، من خطر أشباح عالم الظلام البعيد
في التاريخ المتلهفة إلى إطفاء كل شعلة نور أوجدتها الإنسانية، بل ولجعلتها قبلة
سياحية إنسانية تستقبل من خلالها كل ثقافات الأرض، وتغني روحها من كنز الإختلاف
لتلك الثقافات. لتحقيق رغبة غاندي الإنسانية التي تكمن داخل كل إنسان وكل شعب
متحرر، عندما قال: "أريد أن تهب كل ثقافات الأرض قرب منزلي، وبكل حرية ممكنة،
لكني أرفض أن أنقلب من جراء رياحها العاتية".
إن قساوة الواقع القائم المزري اللإنساني على جميع
المستويات الذي قاد نسبة من أفراد المجتمع إلى الإنجداب إلى ممارسات غير سليمة،
تحت تأثير الظروف الاقتصادية الاجتماعية الثقافية المفروضة، وهي الظروف نفسها التي
جعلت آخرين ــ كما أشرت أعلاه ــ لأن يكونوا تربة خصبة لمعانقة أفكار وممارسات
ظلامية دموية مدمرة.
فهي نفسها أيضا الظروف التي قادت آخرين، من كثرة ما
عانوا من الغربة والضياع وفقدان الأمل والبطالة وانعدام التعليم وهضم الحقوق...، قادتهم
إلى مغادرة تراب الوطن، لأنهم لم يعودوا يحسون بأي شيء يربطهم به على الأقل في فترة
محددة تتميز بثقل الواقع عليهم، ليضطروا إلى مغادرة بلدهم كمهاجرين للبحث عن العمل
أو لمتابعة تعليمهم العالي، خاصة الكفاءات، أو كلاجئين ومشردين على الغربة
والملاجئ والمنافي الإضطرارية. كما هو واقع الشعب السوري أو على الأقل فئات منه،
تحول الوطن بالنسبة لهم إلى جحيم يومي، إن من يشاهد آلاف اللاجئين السوريين وهم
يتركون بلادهم المدمرة تحت قصف الآلة الحربية للنظام الرجعي القائم بسوريا وقصف
الإمبريالية. سيتساءل بمرارة أسئلة عديدة مؤرقة، حول صفة وفصيلة بشر يتشبثون
بالسلطة حتى ولو قتلوا كل الشعب أو شردوه ؟ وسيتساءل من جهة أخرى عن لمن يترك
هؤلاء اللاجئين بلادهم ؟ أليس أحرى بهم الصمود والمواجهة وتحمل المسؤولية ؟...؟
لكن الضمير الإنساني لا بد وأن يستقر على التضامن المبدئي واللامشروط مع الشعب
السوري ومع اللاجئين المهجرين قسرا من بلادهم من طرف الذين أحرى بهم أن يكونوا مشرفين
على خدمة مصالح الشعب، لكن المراقبة من بعيد شيء والعيش في واقع شيء آخر.
البلاد التي تحكمها عصابة لا بد وأن تؤول إلى هذا الوضع
لا محال. أن يتركخا أبناءها، بل أن يكرهوا الإنتماء إليها، وأن يكرهوا لماذا ولدوا
بها، ليس كرها فيها ولكن كرها في أوضاعها المفروضة المزرية، وكرها فيمن أوصلوها
إلى وضع مأساوي مزر. كره في المتسلطين المستبدين الحاكمين والمسيرين المتربعين على
السلطة السياسية.
في بلدنا لا وجود للحرب بالصواريخ والقنابل والألغام
والرصاص. من طرف النظام القائم ضد الشعب على الأقل إلى حدود الآن، لكن تخاض لدينا
حرب من نوع خاص، تجعل الكثير من أبناء الشعب يفكرون في الهجرة خارج البلد، وترك
"الجمل وما حمل" من أجل نسمة حرية وحرف علم. فالبلد الذي تتجرع فيه كل
يوم مرارة الظلم، وفي كل يوم تذوق آلام القمع والحرمان من كل ما تتمناه كإنسان.
كأن تدرس في ظروف مناسبة، أن تحصل على عمل مواتي، أن تفكر بحرية،.... لقد
اغتصبوا كل شيء لدينا، اغتصبوا حياتنا، حقنا في الحياة في ظروف إنسانية، ماضينا
وحاضرنا، ومستقبلنا، نعيش مجهولي المصير، حياتنا إنتقال من سجن إلى سجن، أو سجن في
سجن. وهكذا شيئا فشيئا سيصبح هذا البلد، الوطن الذي كان من المفروض أن يكون فضاءا
للحرية، سيصبح عبارة عن سجن كبير لأبنائه، إذا فتحت الأبواب العديد من سيفرون، ليس
في المغرب فقط بل على طول المنطقة، إنها غرف في سجن واحد، والفسحة قصيرة جدّا
والحقوق مهضومة جدّا، الوعود كثيرة، ولا شيء يبشر بالتحسن، الوضع قائم يزيد سوءا،
لكن الآمال كبيرة جدّا أيضا، الطموح والإرادة في التغيير تنمو باستمرار. رغم حضور
القمع السياسي، والسجن السياسي في الجهة النقيض المناهضة بهذا الطموح، المناهضة
لقيام وانبثاق مغرب آخر، مغرب جديد فعلا.
3) السجن السياسي لمدافعين عن مشروع: "فتح مدرسة
لإغلاق سجن".
لقد حاولت فيما سبق أوضح من جوانب معينة أسس وأبعاد
سياسة إغلاق المدارس من جهة وسياسة فتح وتشييد السجون من جهة نقيض، وخطورة غياب
دور المدرسة، دور التعليم والتربية والتكوين بمضمون علمي تقدمي إنساني عبر طرق
ومناهج وبرامج علمية دقيقة متكاملة ومتناغمة لتكوين إنسان وجيل الغد، وأهمية
وضرورة توفير الحقوق الاقتصادية الاجتماعية الثقافية السياسية لجميع أفراد المجتمع
على قدم المساواة ودون تمييز، وهو المشروع الكفيل بأن يجعل السجن كمؤسسة للقمع تصبح
فارغة وزائدة لا حاجة لبقائها.
لكن هذا المشروع والطموح المنشود يتعارض مع مصالح فئات
من الناس داخل المجتمع أو تحالف طبقي مسيطر، مستفيد من الأوضاع القائمة ومن بقائها
واستقرارها. ولا محال سيعارض مثل هذا الطموح وأي مشروع يحمل وينادي بالمساواة
الحقيقية وبالعدالة الاجتماعية، وبضرورة القضاء على التمايزات الطبقية من أجل
العيش جميعا في مجتمع إنساني خالي من الإستغلال والقهر من قبل الإنسان لأخيه
الإنسان. ومن أشكال هذه المعارضة لحملة هذا المشروع المجتمعي التقدمي من قبل
المسيطرين على السلطة السياسية، أي سلطة أفراد التحالف الطبقي الرجعي المسيطر
الذين لهم مصالح اقتصادية اجتماعية ثقافية تحفظ عبر إبقاء الوضع القائم المزري كما
هو، باعتباره يوفر شروط أفضل للاستغلال وتحقيق نسب أفضل وأسهل للربح. قلت من أشكال
هذه المعارضة هو اقتياد المناضلين السياسيين، الحقوقيين، النقابيين إلى السجن،
وهنا سنكون بصدد حقيقة جوهرية من حقائق قيام السجن كمؤسسة للقمع السياسي الطبقي،
وبصدد الطبيعة اللاديمقراطية للسلطة السياسية، أو النظام القائم الذي ينتهج سياسة
فتح السجون وإغلاق المدارس.
فالسجن والقانون الذي يحكم به على أبناء الشعب ضحايا
النظام القائم لأن يقادوا بطريقة "شرعية" أو "مبررة" إلى
السجن، عن ماذا يعاقب هذا القانون وعن ماذا لا يعاقب ؟ ولماذا يعاقب على ممارسات
أو اختيارات مقصودة أو غير مقصودة، ولا يعاقب على أخرى ربما هي أخطر منها ؟ ولماذا
يعاقب أبناء طبقات محددة من المجتمع ولا يعاقب أبناء طبقات أخرى، الطبقة العليا من
المجتمع ؟ وما علاقة هذا القانون بأسس النظام السياسي والمحافظة عليه ؟. كل هذا
وغيره كثير يوضح ما أكتبه. خاصة وأننا عشنا جميعا كشعب مغربي قبل سنوات قليلة،
أثناء وبعد الإنتفاضة الشعبية التي انطلقت مع "20 فبراير 2011"، وحتى
قبلها وبعدها في انتفاضات شعبية أخرى، كيف أن مناضلين حقوقيين، نقابيين، سياسيين،
وأفراد من الشعب، اقتيدوا إلى السجن بتهم ملفقة وموضوعة على المقاص تجرمهم وتسمح
بتطبيق فصول وبنود قانون رجعي عليهم، في حين تم تغييب الخلفية الحقيقية للإعتقال،
الأهداف السياسية والحقوقية والنقابية التي هدف إلى تحقيقها هؤلاء المناضلين الذين
اعتقلوا ومارسوا على أساسها، دون أن يكونوا قد مارسوا ممارسة مباشرة لها علاقة
بالتهم التي لفقت لهم([1])،
وهنا نكون بصدد التطرق لجانب مهم وجوهري من حقيقة قيام السجن كمؤسسة قمعية
بالأساس. كملحقة مادية بجهاز الدولة، تعرف عليها الإنسان في التاريخ عند انقسام
المجتمع الإنساني إلى طبقات مستغِلة ومستغَلة، عندما تطور المجتمع البشري إلى
مستوى ظهرت معه وفي شروط تاريخية معينة طبقة تستأثر وتعيش من عمل وكدح وتعب وألم
طبقة عريضة أخرى من المجتمع، الطبقة الأولى تملك الثروات والخيرات عن طريق
اغتصابها قسرا ونزعها من ملكية العموم، والثانية تملك قوة عملها، سواعدها، بعد ما
جردت من ملكيتها، الأولى تستغل الثانية في المجتمع، ولكي تضمن الطبقة الاجتماعية
الأولى الحفاظ على وضعها المتميز هذا، على وضع الطبقة أو الطبقات الاجتماعية التي
تسيطر عليها وتجردها من حقوقها المساوية لها طبيعيا وتضمن بقاءها كخادمة لها،
أنشأت جهازا للقمع مجهزا لتضمن وتحافظ به على بقاء الطبقة الاجتماعية المضطهدة
خادمة لها، تكدح في شروط لا إنسانية لصالحها.
فكان هذا الجهاز المنشأ هو البوليس والجيش المسلحين
الدائمين الذين يعيشون ويجهزون على حساب الطبقة المضطهدة (بفتح الهاء)، بالإضافة
إلى ملحقات مادية أخرى تساعد في عملهم وتكمله هي وسائل القمع والمحاكم والسجون،
دون أن ننسى وسائل القمع الروحي.
وهكذا تشكل جهاز الدولة، وفي إطاره السجن والقانون
والبوليس كجهاز للقمع قصد كبح الصراع الطبقي داخل المجتمع لصالح الطبقة المالكة
للثروة وكذا قصد الدفاع عن حدودها السياسية.
انتقل هذا الجهاز القمعي، الدولة بملحقاتها، من يد طبقة
إلى طبقة أخرى، التي كان يحسم الصراع لصالحها عبر التاريخ والتي كانت تحقق وتلبي
مطالب الأغلبية في ظل الظروف الناشئة حديثا والمتغيرة بطبعها، الطبقة الجديدة
الناشئة في مجرى التاريخ، وهكذا مع الإنتقال من مجتمع إلى آخر، وتطور عبر
المجتمعات الطبقية.
وبما أن ظهور جهاز الدولة ومنه السجن كمؤسسة للقمع كان
إيذانا بانقسام المجتمع وباضطهاد طبقة لأخرى، فإن استمرار وجوده هو تعبير عن هذا
القمع واستمراره والاضطهاد المرتبط باستمرار انقسام المجتمع إلى طبقة غنية وطبقة
فقيرة، الأولى تضطهد الثانية. لكن ذلك لا يعني خلوده وبقاءه، بل على العكس. فذلك
سببا للنضال من أجل القضاء عليه بالقضاء على شروط ظهوره.
إن من يعتمدون القمع كأسلوب لردع وإسكات السياسيين
المعارضين الثوريين والمناضلين الحقوقيين والنقابيين لا يريدون لتلك الفكرة
المشبعة بالحرية أن تقوم في الواقع، الفكرة التي أشرت لها في البداية، فكرة السماء
تتسع للجميع ما الأرض، لأنهم استأثروا بنقيضها منذ زمن بعيد، إنهم مهوسين بكون
السماء لا تتسع إلا لهم وحدهم، كما هي الأرض نفسها، أما البقية من الأغلبية
الشعبية، فهي بالنسبة لهم مجرد موجودات على غرار السماء والأرض وما فوقهما
وتحتهما، نوع من الموجودات ألقتها الطبيعة في متناولهم لتخدمهم وتكمل سعادتهم، وإن
كانت تنغصها عليهم بين الفينة والأخرى حينما تنتفض أو تثور، كما تثور الأرض عندما
تهتز بعنف، أو كما تثور السماء عندما تمطر بشدة إلى أن تفيض الأرض ماءا، وهذين هما
الفكر والثقافة الذين كانا سائدين لدى اليونان القداما، ثقافة وفكر العبودية، حيث
فرض على أغلبية الناس من الشعب أن يكونوا عبيدا لدى قلة متغطرسة من الأسياد،
أرادوا لهذا الواقع أن يبقى موجودا وممتدا في التاريخ بأشكال ومستويات معينة، رغم
الطريق الذي قطعته الإنسانية منذ ذلك التاريخ إلى اليوم.
منذ ذلك التاريخ البعيد جدّا، لما ابتدع متحرري المجتمع
الأثيني فكرا وممارسة نظاما سياسيا اقتصاديا ثقافيا اجتماعيا نقيضا للعبودية
السائدة، فقد أوجدوا لها حلا من خلال اعتماد الديمقراطية، الديمقراطية الأثينية التي
كانت شكلا راقيا للحلم وللحياة، وفريدا أيضا في ظل تلك الشروط والظروف البعيدة
العمق في تاريخ تواجد النوع الإنساني على الأرض، والذي بقي أبرز جانب قاتم مظلم
فيه هو عدم اعتبار العبيد جزءا لا يتجزأ من المجتمع، عدم اعتبار العبيد ناس مساوين
لباقي الناس داخل مجتمعهم، واعتبروا في عداد الأشياء المملوكة للسادة
الأرستقراطيين، وكان ذلك التمييز الطبقي على أساس الملكية. فيفقدان العبيد، الذين
كانوا أحرارا، لملكيتهم فقد اضطروا لأن يباعوا للأسياد الأغنياء ليخدموهم طيلة
حياتهم، وربما كان هذا أبرز عيوب تلك الديمقراطية.
رغم أن الإنسانية قطعت هذا الطريق الممتد عبر التاريخ في
خضم مآسي رهيبة ومعاناة أليمة، فإن محاولاتها كانت حثيثة من أجل إكمال بناء
الديمقراطية، خاصة عبر طبقاتها وفئاتها الاجتماعية الجديدة الصاعدة التقدمية،
والتي ستكون آخر لبنة في درجها المديد تضع قدم الإنسان في مجتمع، في فكر وواقع،
السماء كما الأرض تتسع للجميع، مجتمع الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية، الذي
تجاذبت في طريق بنائه الحرية والقمع الهدم والتشييد، بإصرار مميت من طرف متحرري كل
المجتمعات المتعاقبة على طريق بلوغ كما الديمقراطية، المجتمع الإنساني المنشود، حيث
يتحول البحر من الحنظل الذي كانت به قطرة من العسل هي الحرية، إلى بحر من العسل به
قطرة من الحنظل هي تاريخ ماضي القمع الموشوم في ذاكرة الإنسانية.
4) بين ذلك الأمس الاستعماري وبين اليوم الشبيه به.
في حقبة الاستعمار المباشر عمل هذا الأخير على تقسيم
البلاد عبر نهج سياسة عنصرية تجزيئية على أساس ما يجنيه من خيرات أو ما هو مبرمج
أن يجنيه، لذلك قسم المغرب إلى مغربين، مغرب نافع ومغرب غير نافع، مغرب نافع
بالسهول الخصبة والشواطئ المديدة والبحار الغنية، عمل على تهيئه ومده بالطرق
والموانئ وإطلاق المشاريع الاستغلالية به، وبنى المدارس والمستشفيات لتهدئة
واستمالة سكانها لتسهيل الاستغلال ونهب الثروات. ومغرب غير نافع بجباله الوعرة
وأراضيه الصعبة الاستغلال والفقيرة، صغيرة المساحة في شكل قطع متناثرة بين الجبال
والتلال، لم يعمل إلا على زيادة عزلتها وإسكات أنفاس ساكنتها، فلم تعرف لا طرق
معبدة ولا مدارس ولا مستشفيات ولا مراكز خدمات قريبة، بل وجردت من تلك المنتوجات
البسيطة الفلاحية والحرفية التي تنتجها.
في حقبة الاستعمار نهض الشعب المغربي بإمكانياته البسيطة
لمقاومة جنود استعمارية مسلحة بأحدث وأفتك الأسلحة، سقطت مدن ساحلية وأخرى داخلية
كبيرة بسرعة، بفعل الإنقسامات والصراعات الداخلية التي أضعفتها، والتناقضات التي
نخرتها، وبفعل تواطؤ عملاء من داخلها وخدمتهم ومساعدتهم للمستعمر. واستمرت ساكنة
الجبال ومناطق المغرب البعيد تقاوم ببسالة ولم تقبل أي شكل للتعامل مع المستعمر
إلا شكل القتال المسلح فقتلت شر تقتيل وجوعت شر تجويع، وانزلت بدورها هزائم مدوية
عدّة بقوات الاحتلال وأرهقتها إرهاقا وأخرت سيطرتهم إلى حدود منتصف الثلاثينات،
لتعود للنهوض من جديد مع بداية الخمسينات، وتثور من جديد إلى أن طرد المستعمر،
وقدمت ملاحم نضالية خالدة من أجل تحرير الوطن بكل مبدئية وإخلاص للوطن وللشعب ودون
انتظار لا للمناصب التي ستصبح شاغرة ولا لأراضي ستفوت من بعد ولا ... .
في حقبة الاستعمار المباشر كان التعليم طبقيا تمييزيا
عنصريا، يتم تلقينه وفق خطط مدققة، كان يتم التمييز في تقديمه حسب الفئة أو الطبقة
الاجتماعيتين التي ينحدر منها التلاميذ، وكان التمييز على أساس المناطق (التعليم
بالحواضر الكبرى لم يكن هو نفسه بالمدن الصغيرة أو بالقرى والمناطق البعيدة)، كما
كان يختلف مضمونه ومستواه حسب اختلاف تلك الفئات نفسها، فأبناء النخبة العميلة
والبرجوازية المشاركة للاستعمار وأبناء الأعيان والباشوات كانوا يتلقوا تعليما
عصريا مميزا بمدارس البعثات وبمعاهد مميزة تحت إشراف وتكوين إدارة الاحتلال، كان
يقدم بها تعليم مميز يهيئ المتعاونين المحليين للمساعدة على غرار تعاون وتواطؤ
أسرهم وآبائهم، وكانت تمنح لهم جوازات سفر ومنح لاستكمال تعليمهم الجامعي بفرنسا،
ويهيئ هؤلاء للنيابة فيما بعد عن الاستغلال الإمبريالي. كما أحدثت مدارس لتعليم
فئات شعبية بالمدن ذات تصنيف ثانوي (المدارس) بغرض التكوين البسيط لاستغلالهم كيد
عاملة وكذا قصد الديماغوجية ومحاولة استمالة الشعب و"تهدئته" تحت لافتة:
"إيصال رسالة الحضارة والعلم" التي ادعى الاستعمار إدخالها للمغرب لخفي
الأهداف الاستغلالية التي جاء لأجلها، بينما في المغرب البعيد، العميق الصعب، لم
توجد إلا بعض الكتاتيب المتناثرة. هذا كان هناك بعيدا في الأمس الاستعماري
المباشر. أما اليوم وقد خرج المستعمر المباشر وبقي مكانه عملاؤه الذين علمهم وجهل
الشعب، فقد استمر نفس التقسيم ونفس التمييز والتناقضات الطبقية التي تعمقت في
ميدان التعليم، أبناء الطبقة الفاحشة الغنى تدرس أبناءها في مدراس البعثات إلى
اليوم وفي معاهد مميزة، وحتى جامعات ومعاهد مصنفة خارج البلد ... وفي المقابل أبناء
الشعب تفتح لهم مدارس وجامعات (إن فتحت) ضعيفة متردية البنية والخدمات، فقيرة
وغبية البرامج والمناهج والمقررات، وشكلية الشواهد، ومعدومة ومحدودة الآفاق تؤهل
لمحطات البطالة القاتلة.
فأتت إذن حقبة ما بعد الاستعمار المباشر، وخرج جنود
الاحتلال، ولكن بقي مغربين قائمين، مغرب نافع ومغرب غير نافع، تكرس هذا التقسيم
الذي أقامه الاستعمار المباشر، استمرت المدن الكبيرة التي وضعت في الواجهة، أو
لأقل اهتم بواجهة منها وأهمل الباقي، أقيمت بها مدارس وجامعات ومستشفيات من تصنيف
خاص وملاعب رياضية و...، مستفيدة من دورها أو موقعها في التقطيع الاقتصادي للجهات
والمدن بالمغرب الذي فرض منذ الاستعمار المباشر، أو من قربها من مراكز الاستغلال
أو من دور ''نخبتها" المستغلة الفاحشة الغنى الممتلكة للسلطة أو التي تدور في
فلكها، لكن دون أن يتم طمس التناقضات التي مزقتها بدورها بين الأحياء الغنية والأحياء
الشعبية الفقيرة، وكذا أحياء الصفيح التي تفضح عمق أزمة تناقضاتها، بينهما جدار
عنصري سميك غير مرئي لكنه ملموس يفصلهما، وكذاك السور الذي كان يفصل في قرون ماضية
بأروبا بين الأحياء السكنية للبرجوازية الفاحشة الغنى التي تعيش حياة البدخ وبين
أحياء سكن "البؤساء" وجماهير الشعب المعدمة التي تحيط بها من كل جانب،
تتألم من الجوع والفقر والجهل المفروض والمرض...، وتتألم أكثر عندما تعاين مظاهر
البدخ والغنى الفاحش على ساكنة الحي الراقي المجاور القائم وسط أحياء البؤس. أما
المغرب غير النافع فبقي معزولا ومهمشا ومضروب عليه الحصار، وعوقب بالتجويع
والتجهيل وترك للسماء التي تحميه وللأرض الفقيرة الوعرة التي يسكنها، لا مدارس ولا
جامعات ولا مستشفيات، لا توجد بشكل تام أو توجد في وضع شكلي سيئ، ولا طرق ولا
مصانع ولا خدمات...، وإن وجدت في بعض المدن الصغيرة فهي فقيرة كساكنة هذه المناطق
وثانوية وشكلية ومهمشة منسية دون تجهيزات تكاد تكون معطلة. وعند أي تململ من طرف
الجماهير المضطهدة بها يكون التعاطي كما كان أيام الاستعمار المباشر، القمع
والتقتيل، كما كان حال التعاطي مع انتفاضة الشعب المغربي بعد 20 فبراير خاصة
بالحسيمة، أو مع انتفاضة تازة 2012، والأمثلة عدّة في التاريخ.
وفي مغرب الأقاصي، المغرب الذي أصبح يعرف بالمغرب
العميق، البعيد عن مغرب الواجهة، في قمم الجبال المديدة الباردة كبرودة تهميشها
وفي مناطقه المنسية كنسيان تاريخ نضالها المجيد في مقاومة الاحتلال، في الأطلس
والريف في المدن المعزولة الصغيرة وفي الأرياف المهمشة على طول ربوع المغرب حيث
يقطن الملايين من الناس الذين بسهولة تكتشف قسمات التعب والألم ترتسم على وجوههم
في سبيل تحصيل قوتهم البسيط، يعانون في صمت، بقوا معزولين مهمشين إلى اليوم، توزع
أو تلقى لهم بعض الإعانات البسيطة الموسمية، مكونة من قنينة زيت وقطع سكر وكيس صغير
من الدقيق وبذلة عادية وحيدة، في شكل صدقة في عز قساوة البرد، والتي تكون تكلفة
التغطية الإعلامية الاشهارية أكبر من تكلفة تلك الإعانات. فهل تلك هي كل المسؤولية
اتجاههم وهل تلك هي قيمة نصيبهم وحقهم من الثروة الوطنية ؟.
استمر التقسيم الاستعماري إذن، فتقسيم المغرب إلى بلاد
"المخزن" وبلاد "السيبة" الذي اعتبره الاستعمار المباشر مغرب
نافع ومغرب غير نافع هو نفسه مغرب بعد الاستقلال الشكلي الذي حافظ على نفس التقسيم
وأصبح يطلق عليه "المغرب الجديد" أو مغرب الواجهة الذي عمل المتسلطين
بهذه البلاد على تلميع والتركيز فيه على مدن ومناطق محددة والتي تتركز بها الثروة،
في مقابل "المغرب العميق'' الذي تنهج نحوه نفس السياسة العنصرية الطبقية من
طرف من سلمت لهم مفاتيح الاستغلال في إكس ـ ليبان ضدا على طموح الشعب ومن طرف من
استقطبوا من طرف هؤلاء الذين بنوا مغربا خاصا بهم، وداسوا بحذائهم العسكري حقوق
أبناء الشعب الذين هيئت لهم جحافل من قوى القمع والسجون كما كان الحال بالأمس، أمس
الاستعمار المباشر. وهذا ما يجعل الشعب ينتفض باستمرار رغم القمع الرجعي الدموي
الجماعي في حقه من طرف الأسطول القمعي للنظام القائم([2]).
فلماذا استمر هذا التقسيم ؟ وماذا قدم لجماهير غفيرة من الشعب قاتلت وقتلت من أجل
تحرير أرض الوطن كاملة ؟ أليس من حقها أن تنال نصيبها من الثروة الوطنية بشكل
عادل، حيث، مثلا، تعتبر مناطق كتازة، الحسيمة ...، الأضعف من حيث النصيب من الثروة
الوطنية على مستوى المغرب ؟. وأليس من حق مناطق المغرب المنسي هذه أن تقوم بها
مشاريع لتطوير والرقي بأوضاعها، معاهد ومدارس وجامعات في مستوى طموح أبناء الشعب،
مدّ الطريق لفك عزلة المناطق، ومعامل لخلق فرص شغل للشباب بالخصوص، وكذلك تقديم
الدعم للمنتوج المحلي بهذه المناطق لتطوير الإنتاج، وإقامة سكن لائق كحق إنساني
يجب أن يستفيدوا منه بدل تلك الأكواخ، وبرامج توعوية إنسانية تركز على الإنسان
كجوهر، بدل الاستهتار بهم عبر إعطائهم الفتات، بل أقل منه عبر ما يسمى
''الإعانات'' تلك. فالمطلوب هو الطرق، المستوصفات، المدراس، المعامل، تطوير
الإنتاج، وتوفير إنجاز مشاريع تهم الجوانب الإنسانية لأفراد المجتمع. أي مشاريع
دائمة لصالح أبناء الشعب في جميع مناطق المغرب لأنهم مقيمين هناك طيلة حياتهم
وليسوا عابروا سبيل أو متسولين على قارعة الطريق تلقى لهم "إعانات
موسمية" بسيطة جدّا.
[1] وفي هذا الجانب كان السجن ضريبة للنضال، النضال ضد
الأوضاع القائمة المزرية على جميع المستويات، السجن السياسي لأفراد من أبناء الشعب
ناضلوا عن وعي ضد الوضع القائم المفروض ولم يقبلوا بأن يكونوا ضحايا لنظام اقتصادي
ثقافي... قائم، لفقت لهم تهم واقتيدوا إلى السجن قصد إخراسهم، لكنهم صرخوا:
"السجن أحب إلينا من الخضوع".
[2] الذي
يمارس في حقه بوحشية، كما تجسد ذلك في عدة مناسبات تترك واقعا أليما وشديد
المرارة، جسديا ومعنويا، ومنه القمع العنصري الممارس في حق جماهير الحسيمة قبل
أيام والجماهير الطلابية بكل من تازة وفاس.
1 التعليقات:
Ya assafah
إرسال تعليق