الجمعة، 26 مايو 2017

01 ماي 2017// سجن تاونات// المعتقل السياسي: مصطفى شعول//شذرات من حياة أم مناضل أسير.

سجن تاونات في 01 ماي 2017


شذرات من حياة أم مناضل أسير


إهداء:
إلى كل أم وهبت سنوات عمرها جسرا تعبره أشعة الأمل إلى زنازين الأسرى، وجعلت من دمعها و نضالها عنوان وصال وعربون وفاء لقضية الشهداء.
إلى كل أم أرضعت وليدها لبن الغضب و الرفض وزرعت قلبها بذرة ليزهر الحب في الأرض.
إلى كل امرأة عشقت الحرية و آمنت بالقضية في زمن القمع، إلى الذين لا مسوا جرحها بالمحبة ومدوا جسر الضوء إليه.
إلى كل أمهات المعتقلين السياسيين و الشهداء المكتوية قلوبهن بنار فراق فلذات أكبادهن، المغتصبة حياتهم وحريتهم في مقابر و سجون الرجعية... أنتن حقا رمز الصمود.
                                                           أتوجه بهذه الكلمات الصادقة...
انطلاقا من واجب التعريف بتضحيات و معاناة أمهاتنا، أمهات المعتقلين السياسيين، سأحاول وفق ما توفر لدي من وقائع، أن أعرض جزءا يسيرا من هاته العطاءات، بكل صدق و أمانة، و أنقل الواقع كما هو موجود، و أعبر عن أفكارهن و أمالهن و آلامهن، التي لطالما صدحت بها حناجرهن المبحوحة في المظاهرات و الوقفات و الندوات و المهرجانات الخطابية التضامنية مع المعتقلين السياسيين، عسى أن يكون الأمر حافزا إلى المزيد من التضامن معهن، و الوقوف إلى جانبهن في هذه المحنة و دعمهن معنويا و ماديا ونضاليا، في معركة إطلاق سراح المعتقلين السياسيين، باعتبارهن حجر أساس في سير ونجاح هاته المعركة، ووصولها إلى أهدافها و مراميها الآنية و الإستراتيجية، و كذلك باعتبار الأمهات أساس عائلات المعتقلين السياسيين و كل العائلات عموما، فالنساء روح الحياة.
"ليس أنتم من في السجن، بل أنا هي المسجونة"، جملة تكررها أمي دوما، في حديثها معنا، منذ أن صرنا معتقلين سياسيين خلف القضبان، قبل ثلاث سنوات من الآن، تختزل بها الألم الذي يعتصر فؤادها، على فراق ابنيها... لم أكن أعلم أننا قد نسبب لها هذا الكم الهائل من الحزن في يوم ما، وهي في هذا العمر و بعد كل الويلات و الأحزان التي عاشتها...كما لم أكن واع بكونها أغلى ما أملك في هاته الحياة...بأنها بسمة الأمل و الفرح التي ملأت حياتي منذ صرختي الأولى، وسقوط رأسي على أرض وطني، هذا الأخير لم أتوقع لما فتحت عيناي على جباله وسهوله و هضابه و وديانه، أنه سيقسو علي ويجافيني لهاته الدرجة، رغم حبي الكبير له و تضحياتي الجسيمة لأجله.
صارت أني، مع امتداد سنوات اعتقالي، سندي القوي الذي يدعمني في محنتي، و أتجرع منها مقومات الصبر و الصمود و التشبث بالحياة، في مواجهة الموت الذي تنشره الزنازين بظلامها وبرودتها وقسوتها... وفي مجابهة ظلم الطغاة... أصحاب السلطة و المال...أنصار القيد و المزلاج...وبهذا تكون منخرطة في الكفاح من أجل قضية عادلة، تراها في إطلاق سراح ابنيها، وقضية مشروعة أخرى، قد لا تراها، وهي قضية شعب يناضل بأساليب مختلفة، لبناء مجتمع جديد يحقق كينونته الإنسانية ويحفظ كرامته و حريته ويوفر له حق العيش الكريم فوق هذه الأرض.
منذ أن أصبحت تمتد بي الأيام في السجن، و تتحول إلى شهور، التي تجتمع بدورها لتلد السنوات... غدت أمي تزورنا بشكل دائم و إن على فترات متباعدة...تقل لشهر، وتطول أحيانا لفصل...لأنه غالبا لايسعفها جسمها النحيل على تحمل مشاق السفر، أو تخذلها النقود لأداء فاتورة التنقل و تبضع قفة السجن...و الزيارة هي تلك الفسحة الوحيدة على العالم الخارجي... بها نخرج من عالم إلى عالم آخر، رغم أنها في نفس السجن.
في قاعة صغيرة، تناثرت بها كراسي و طاولات بلاستيكية مهترئة،أعبر إليها عبر نفق صغير، وقف به سجانان للتفتيش و المراقبة... نساء وشيوخ، أطفال وشباب يعج بهم المكان، إنهم عائلات المعتقلين، هنا يلتقون بأحبابهم... ألج القاعة، أراها جالسة منطوية على نفسها... عينيها الصغيرتين تجوبان المكان بحثا عن شيء...أو انتظارا لأحد...بريق عينيها يعكس أطنان الألم الذي تقطعه للوصول إلى السجن، بداية بعبور طريق جبلي وعر على ظهر دابة، وصولا إلى السوق الأسبوعي، وبعده التنقل عبر سيارة نقل البضائع إلى محطة سيارات الأجرة، لتقلها إلى معتقل "عين عائشة"، إلى قبر الحياة...تظل أمام سوره العالي المسيج، تتكوم لساعات تنتظر دورها، تحمل بيدها قفة ملأتها بما جاد عليها الزمان به...خبز و زيت، وبضع فاكهة و آنية بها طعام...ولما يحين الوقت، تدخل للقاعة، لتنتظر مجددا...و أنا بدوري –رفقة رفيقي و أخي عبد الله- أكون في الجهة المقابلة، خلف السور و الأبواب المقفلة، أنتظر أيضا... يحين الوقت أخيرا...أدخل القاعة مهرولا نحوها، نحو أمي، إنه الشوق، الحب، إنه الألم الذي يقربني.
في لحظة أجدني أعانقها، أحس  و أنا في حضنها أن روحي تغمرني من جديد... و كأنما فرغت بطارية مشاعري في هذا الجحيم...و أصبحت جسدا ميتا... و آن الأوان لأن أشحنه من جديد... لأن الحضن هو الشيء الوحيد الجسدي بين البشر الذي يلمس روعة الروح، تركت نفسي و كل ما يؤلمني على صدرها الحنون...إنها بمسحة سحرية على شعري كطفل صغير، تمحي كل همومي...هي ذي أمي...ملاكي.
تجلس و البسمة تغزو ثغرها...ينطلق لسانها في الحكي عن واقع الحياة المر...عن التعب من أجل توفير لقمة العيش...تمدني بالأخبار عن أحوال العائلة...الأب و الإخوان...الأخت و الأحفاد...وتنتقل لتتفحصني بإمعان متسائلة: ما بك نحيل هكذا؟ ألا زلت مريضا؟ أعلم أن صحتك متعبة و أكل السجن يزيد وضعك سوءا...تتكور في عينيها دمعتين تأخذان في الانسياب على خدودها... أضمها مقبلا رأسها... ماسحا دموعها... أطمئنها على أحوالي، دوما أطلب منها أن لا تأتـي تفاديا لإيلامها، مع أنني بداخلي أتمنى زيارتها و أنتظرها بلهفة وشوق كبيرين، تجيبني غاضبة:"أنتم لا تحسون بي، ليس لديكم أولاد...ليس لديكم "كبده"...لما تتزوج ويكون لك أبناء...ستعرف معنى كلامي... إني أشتاق لرؤيتكم... لا أريد سوى أن تخرجوا من هذا السجن...أن تظلوا إلى جانبي... كل أمالي تحطمت، كنت أريد أن أراكم مستقرين مع أسركم...درستم كثيرا، أنتم الوحيدون في العائلة من حصلتم على شهادات عليا...لكن بينما كنت أنتظر أن أفرح بكم... وجدتكم تنتزعون مني...تغتصب حياتكم وحياتي معكم...كل يوم أبكي ملء جفوني...أحن إليكم". أجيبها مقاطعا:"أمي المهم أننا أحياء و لازلت تربيننا و تكلمينا هكذا، ماذا ستقلن أمهات الشهداء اللائي اغتيل أبناءهن ودفنوا في قلوبهن قبل أن يدفنوا في التراب، ونحن يا أمي لم نفعل شيئا سيئا أو دنيئا أو اقترفنا جريمة كما يدعون، نحن مناضلون شرفاء و أبرياء من كل التهم الملفقة."تجيب الأم:"أعلم أنكم على حق...و أبرياء من التهم الظالمة الموجهة لكم... لكن أقول مع نفسي، الناس كلهم صامتون، و أنتم لوحدكم ستغيرون؟؟؟...نعم إنكم تناصرون الحق و تحاربون الظلم...لكن في بلدنا لا ينجح إلا من سكت ومشى جنب الحائط... وعرف من أين تؤكل الكتف..." أرد من جانبي و الكلام بدأ ينفذ لدي:" المهم أن نعيش شرفاء...رؤوسنا شامخة كجبال الريف...أنت ولدت شجعانا يعيشون بكدهم و عملهم...تربينا في كنفك على مواجهة الظلم وفعل الصواب حتى لو كانت سيوف على رقابنا."
الأم:"صحيح... ما يؤلمني أن سنوات طويلة سلبت من حياتكم...و أحكام قاسية تثقل كاهلكم... وهل بقيت في عمري أنا كل هاته السنين لأعيشها...حتى أراكم أحرار... و أعيش معكم...و أحضن أولادكم و ألاعبهم...".
يقاطع حديثنا، رنين الجرس و صفارات الحراس...انتهت الزيارة... هي دقائق معدودة... لا تكفي لأشبع منها...لكن رغم قلتها...أتزود فيها من أمي... بالقوة...و الصمود...و الحنان...أتزود منها بما يكفيني لفترة طويلة...أسابيع و شهور...كجمل مسافر في الصحراء...ما أن يجد ماءا حتى يشرب بكل طاقته تحسبا لمواجهة أيام العطش والجفاف...و أنا أودعها، يتدخل السجان فاصلا بيننا...صارخا في العائلات...أخرجوا...يفصل المعتقلين و يجمعهم في ركن منزو من القاعة... يدفع العائلات خارجا، يعد المعتقلين. أعود بعدها للعنبر وسط كومة من السجناء... نفترق أنا و أخي في الطريق... كل إلى جناح...بعيد عن الآخر...حتى لحظة أمان و أخوة محرومون منها...لم يكفيهم سجننا... حتى داخل السجن فرقوننا.
أدخل الغرفة، حيث أقضي عشرون ساعة يوميا... بت أحفظ تفاصيل جدرانها وسقفها من كثرة مكوثي بها...وسط 40 معتقلا...كأنك وسط خلية نخل لا تكف عن الطنين... ينقضي النهار و يأتي الليل...يعاندني النوم...يهجر جفوني... منتقما هو الآخر...أسبح بخيالي...في ذكريات تأبى النسيان...تنتصب صورة أمي أمامي ...يراود الألم الفؤاد... يغازل الدمع الجفون...لكن العيون تأبى تسرب السائل المالح...يظل ذهني صاحيا... حتى صرير المفتاح في القفل.
وتعود أمي بدورها إلى المنزل في قريتنا النائية...في الجزء المنسي من الوطن...وسط الجبال...تقطع المسافة كما جاءت...تحمل آلامها و آمالها في قلبها...تكفكف دمعها لتبدو قوية أمام الناس...فهي لا تريد شفقة من صديق ولحظة تشفق من عدو، منهكة القوى...دامية القلب...تعود أدراجها بخفي حنين ككل مرة...جسد بلا روح...تاركة روحها لتؤنس فلذات كبدها خلف القضبان.
تظل كلمات أمي تطن في أذني...حاضرة هي و أبي في تفكيري بشكل دائم...صحيح أن أحلامهم البسيطة التي نسجها خيالهم إزاءنا أضحت سرابا... غدا مكانها إحباط، حزن ودموع... لكن هذا هو "قدرهم"، كما هو "قدرنا" أن نحب هذا الوطن، أن نفديه بشبابنا و حياتنا...أن نقتل أحلامنا لنمد في عمر أحلام الوطن...أحلام الحرية و العدالة و المساواة...طموحات التغيير الحقيقي...تحطيم قيود العبودية وتشييد قلاع الحرية...أحلام بناء المجتمع الإنساني المنشود، الخالي من استغلال الإنسان لأخيه الإنسان...مجتمع يعيد للإنسان نفسه و كرامته...التي سلبها منه الرأسمال المتوحش وحوله إلى سلعة تباع و تشترى في مزادات الأغنياء لإرضاء جشعهم و تسلطهم.
كما هو "قدرك يا أمي أيضا، أن تعيشي متعبة... تشتغلين في الحقل طيلة حياتك... تقتسمين الألم قبل الأمل مع أبي الذي لا زالت يديه تنغمسان في التراب إلى اليوم... وعمره يشرف على التسعين... يحرث الأرض ويقلب التراب حول أشجار التين و الزيتون... ويزرع الخضر جنب الوادي... كما هو "قدر" من يخنق أنفاسنا كل يوم ويحشرنا في العنابر كالمواشي إرضاء لرغبة أسياده في التسلط و الاستعباد... ليستمروا في نهب و سرقة خيرات البلاد و العباد دون ضجيج و إزعاج أمثالنا لهم... لكي يستمروا في السطو على تعب و إنتاج و حتى دماء و أعمار الناس...دون رقيب أو حسيب.
أمي...إن هذا الظلم و القهر المسلط علينا، كباقي الشعب يتحول يوم بعد آخر إلى حقد يتضخم و يزداد باستمرار...يصلب قناعاتنا، ويزيد تشبثنا بمواقفنا ودفاعا عن القضايا العادلة.
أمي...إن هاته الجروح لا يداويها الكلام أو مرور الأيام...بل تحفر داخل الروح أخاديد لها... وتصرخ دوما بالانتقام.
أمي...إن عذاباتنا و آلامكم...تتراكم مع الزمن مجتمعة في سيل جارف... سيكنس معه كل العفن الجاثم على صدر هذا الوطن...فمهما طال الظلام، حتما ستشرق شمس الحرية.
توقيع المعتقل السياسي شعول مصطفى

انتهىأم

0 التعليقات:

إرسال تعليق